العاصمة

الحجيج وأيام مَعدُودات كتبت/ ناهدعثمان

0

الليلة الخامسة

هل هذِه شَعيرة الهِجرة إلى زَمن الِقيامة .. 


هل هذِه { أيام مَعدودات } ؛ جاءَت كي تَختَزِل لَكَ كلّ خارِطة الحَشر !

” لَبَّيكَ الَّلهمَّ لَبيك ” .. 


يُوحي لكَ الصّوت ؛ بأنَّ القَوم ابتَدأوا رِحلة الحِساب .. حيثُ لا غَفلة في الخُطى المُتَّجِهة إلى المصائر !

يُبعثُ النّاس ؛ وقد هَيَّأَت لهم السّماء مَساراتهم ..


شَيء ما ؛ كان يَترسّب هُناك مِن سَعينا .. لكأنَّنا نقبِض خطوة النّهاية التي ابَتدأناها في زَمنِ الأَرض !

فيا للذِّكريات ..


حِينها ؛ كيفَ تَستردّ الألم ؛ حتّى كأنّه السّاعة السّاعة !

ويا للهِ ..


كيفَ تستلُ الصّحائف كلّ هذا الحَشد مِن التّفاصيل المَنسِيّة !

في الحَشر ..


يَرتَجِف النّاس مِن ذِكرياتهم .. يَتمنّون لو تَصمت ..

في الحَشر ..


تَنفي الأرضُ زَيفها ؛ فَيعلو زَبَد الكلام ، وتُكشف حُمولتنا .. لِيرتدّ إلى النّاس ذلك كلّه ؛ حزناً لا يَنتهي !

فيا للرُّوحِ .. إذا عَرُيت من خَباياها .. 


وهوَت صُورنا في عتَمة السَّوءات .. 


وانَكشفت الأجسادُ في تَماهٍ عجيب ؛ بين كشف المَخبوء ، وبروز المُعلَن !

” لبّيك الّلهمَّ لبَّيك ” ..


يا لِصوت الحَجيج وهو يحكي صوت الوُجوه يوم القيامة ؛ تكدّسَت بالخَوف تنتَظر المَصير !

و ياللّهفة ..


حين يَحمل كلٌ نَفسَه إلى اللهِ بينَ يديه ..


يحمِل مِغزله الذي أبَرم به كلّ نَسيج حياته !

في يومِ الحِساب ..


تقصُر المسافة بين الخَفِيِّ في أعماقِنا ؛ وبين المَسطور في الصّحائف ..


ملمومة كلّ التّفاصيل ؛ حتّى كأنّها قيدٌ وَثيق !

يَشعرُ المرءُ كأنَّ أيّامه سقَطت عليه .. وكأنَّ حكاياته هي المَعنية بقولِ الله { لا يُجَلِّيها لِوقتِها إلا هُوْ } !

يبحثُ الحَجيج عن شَجرة ..


عن ظلِّ خَيمة .. 


عن فَيءِ حاني ..

فيا ويحَ قلبي ..


إذا كانت أشجارُنا في القيامة أقصرُ من أن تُظَلِّلنا ، وشَرُد الغيمُ عنّا ؛ فلا سُقيا ..


وبَقينا في الهَجير !

ما الحَجُّ إذن .. إلا مَشهد الحَشر نَحتشدُ فيه .. تتَلاصقُ الأجسادُ في الحَجِّ .. وتَئِنُّ الأماكنُ مِن كثرةِ العِباد ..
ويَتهادى الحَجيج على المَطايا !

وفي الحَشر ..
يسوقُ النّاس أعمالهم ؛ مثل نياقٍ ضُروعها لا تَدرُّ الحَليب .. فقدْ جفّت بالعَثرات !

كيفَ تُبعث الأعمال باهِتة ؛ كأنّها أعمال صمّاء !!
يَعلوها غُبار الحِيرة !!
يَحملونها ؛ مثل أعوادٍ يابِسة شاخَت بالخَطايا !!

كيف !
وغيرهم في حُقول السّنابل يحصُد .. ففي الحشرِ ؛ لا قَمح إلا في تَنُّور الصّالحين !

يُقلِّب النّاس بين أيديهم الأحزان .. يُقَلّبون المَسغبة .. يُقَلِّبون الصّمت العَقيم !
يَبدو اصْفِرار الشَّفَق في ملامحِ أعمالهم .. ويَرتعشُ الجواب على شِفاههم مِن ثقل الأحمال !

ثَمّة أقوام قد ابتدأوا الخُلود .. ينثِرون صُبحهم من الصّحائف ؛ فقد كانوا يُخبؤّون الشّموس ليومِ العَتمة ..
يَسكبون أعمالهم في الكُؤوس تَعبق رِيَّا ..
يتمنّى القوم بعض مَكانهم ..

هَيهات هَيهات ..
فقد تَسنّموا شاهِقاً مِن العُلوِّ من بواكيرِ أعمارهم !

يُبْعَثُ الإنسان بحقيقة الطِّين فيه .. ويَرى نفسه في القيامة ؛ بِناءٌ يَنهار .. إن لمْ يكن قد أُسِّس على التّقوى !

كلُّ عُمْرِ بلِا التّقوى ؛ عُريان .. هذا عُنوان الرحلة .. وفي القيامةِ البُرهان !

وما سِوى ذلك .. فأعمالٌ لو نَطَقتْ في الدّنيا لقالتْ لكَ ؛ إنَّني وَقودها .. وإنَّني بعضُ الشَّرَر !

ما المَسافة بين الحجِّ والحَشْر ؟! أهِيَ يَقظةُ قَلْب ..
أمْ هي انتباهةُ رُوح .. تَنشقُّ لها حُجُب الغَيب ؛ فَترى وَحشة الذُّنوب في أرضِ المَحشر ، فَتُعاجلها اليوم بِتَوبة تَمنحها انعتاقاً !

يشَتدُّ العَطَش بالحَجيج في مناسِكهم ..
وفي الحَشر ؛ يشتَدُّ الجَفاف ..
يَنبشُ النّاس في كَثيب المَحشر ؛ فلا يَجِدون إلا السّراب !

يا أهلَ المَحشر ..
هذا سرابٌ وُلِدَ مِن أزمانٍ سَحيقة .. وُلِد مِن جَفافٍ قَديم !

يَلتاع النّاس مِن الحَقيقة المُعلَنة ؛ إذ لاشيء يَغيب في مدافِن الزَّمن ..
وفي مكانٍ مَرئي ؛ تَهُبُّ على المَحشورين في ظِلِّ العَرش نسائمُ الرّحمة ، وتَهجر مَن تَبّقّى !

ينْصُب الحَجيج خِيامهم .. يَشُدُّونها .. ويُلجِمون الرّيح ؛ أن تعبَثَ بِها !

وفي القِيامة .. تُقوّض خِيام الشّيطان .. تُمَزِّقها حِجارة الرَّجم مِن أعمالِ المُؤمنين !

تُصبح أشلاءَ .. فيا خَسارة مَن بَركَت رواحِلُه عِند خِيام العَدُوّ في الأرض !
ماذا بَقي له !

يجمعُ الحَجيج الحَصى ؛ ويَرجمون بها الشّيطان ..
وفي عَرَصات المَوقف ؛ تكثُر حصَى الآلام في طُرقات العاجِزين عن الرَجم في دارِ الابتلاء !

في الحج ..ِّ كلّ شيء في الفَضاء المَكشوف .. مِنى .. مُزدلفة .. عَرفات .. السّير في فِجاجِ مكّة .. وكذا يوم النُّشور !

فيا للعَجب !
إذ ترِدُ آيات الحَجّ في سورةٍ أولها { اتّقوا رَبّكم إنّ زَلزَلة السّاعةِ شَيءٌ عَظِيم } ..
ثمّ تكون الوصية في زادِ الحجّ هو { وتَزَوّدوا فإنّ خيرَ الزّاد التّقوى } ..
فيا لِتشابُه الرِّحلتين ؛ في الزّاد والمّآل !

فما التّقوى ؟
التّقوى .. هي لونُ الوضُوء ؛ إذْ يُطفيء الشّهوة الثّائِرة !

هي قولُ السّلف :
إنّك لا تنالُ ما تُريد مِن الله ؛ إلا بِتركِ ما تَشتهي !

هي بَيعةُ الرُّوح .. أن لا تَخونَ الله في سِرٍّ ؛ بلْ تَصنعُ مَعه عَهد الخَبيئة !

زادُ الحَج ؛ّ التَّقوى ..
ولا يَقدِر على التّقوى ؛ إلا مَن يَبْنون مَحاريبَهم داخِل السّريرَة .. حيثُ لا يَصِلُها الشَّيطَان !

اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading