العاصمة

يحدث كل ليلة (قصة قصيرة)

0

بقلم سهير عسكر
بدأ مساء جديد أعانى فيه كما أعانى كل يوم تقتلنى الوحدة ويستبد بى القلق كدأب كل ليلة أقضيها منذ أن سافر زوجى وتركنى أقاتل فى الحياة ومعى طفلى الصغير
يالها من ليلة ظلماء فلا أسمع فيها سوى نقيق الضفادع يصدو فى الخلاء وحفيف الأشجار الذى يشعرنى بالخوف
رحت أطالع الساعة ودقاتها البطيئة ..إنها تعلن الواحدة بعد منتصف الليل ..متى ينتهى الليل الطويل ..كنت غارقة فى لجه من الأفكار لأقتل الملل ..استفقت منها على صوت صغيرى فهرولت إليه ودنوت منه وقد امتلكنى الرعب فهذه المرة الرابعة التى يستيقظ فيها حملته وقد كسر صراخه جمود الليل
-ما بك يا صغيرى
هكذا قلت لنفسي..وضعت يدى على جبهته فإذا بها نارا موقدة ..صرخت بكل ما امتلك من قوة
-ابنى
وركضت فى المنزل هنا وهناك أبحث عن دواء يهدئ الحرارة ..لكنى لم أجد شيئا
أحسست بلذعة أليمه تخنق حنجرتى والكلمات أثقل من كل الأحمال على لسانى ..ماذا أفعل ياربي
حملت صغيرى بعد أن لففته جيدا وركضت وسط المزروعات والأشجار فى ذاك المكان المترامى ..أجرى وأجرى أتعثر وأجاهد للنهوض مرة أخرى ..أشعر بلفحة برد شديدة يقشعر لها جلدى ..لا أحد..لا أحد ينقذنى ..أدعو الله فى كل لحظه نجنى يارب أصرخ وأصرخ فلا أسمع سوى صدى صوتى يتردد فى الخلاء وأنا أتحسس طفلى بين الفينة والفينة ..هل ما زال حيا أم مات؟ سكت الطفل فجأة ..ياربي مابه؟هكذا قلت لنفسي
خارت قواى واستسلمت وجلست على قارعة الطريق الترابى والمزروعات على جانبيه ولا شئ سوى الصمت القاتل والفضاء
وأخيرا يتراءى لى ضوءا شديدا آتيا من بعيد يقترب أكثر ..لا أصدق ما أراه ..انها سيارة ..أخيرا قد استجاب الله لدعائى ..وقفت السيارة أمامى ..بها شابا وإمرأة تحمل طفلا وكأنها زوجته ..قلت بصوت مرتجف:
-لو سمحت ..ممكن تودينى لأقرب دكتور
-طبعا حضرتك ..إتفضلى
توقفت السيارة أمام إحدى المستشفيات العامة ورافقنى صاحب السيارة وزوجته التى كانت تطمئننى وتواسينى طيلة الوقت
المستشفى وكأنها خالية من البشر بحثنا فى كل الغرف عن شخص نتحدث معه فلم نجد فهى كبيت خاوى علته الأتربة والقاذورات..الأجهزة والمعدات متهالكة ..الأرضية والحوائط متسخة والذباب فى كل مكان
سمعنا ضحكات عالية وأصوات مختلفة تتسلل من إحدى الغرف المغلقة طرقت الباب وفتحته فإذا به الطبيب وطاقم الممرضات والمساعدين بأكمله يفترشون الطعام والشراب على المكتب الخاص بالطبيب ..غارقون فى نوبة من الضحك وكأنهم سكارى ..وقفت إحدى الممرضات وقالت لنا فى حزم:
-إنتوا إيه اللى دخلكم هنا؟
-حضرتك مفيش حد برة ،وابنى تعبان
وهنا تدخل الطبيب بعد أن توقف عن الضحك وقال فى اقتضاب:
-إستنوا برة
-وليه نستنى وإنتوا بتعملوا إيه أصلا..إيه التسيب ده؟
هكذا صاح صاحب السيارة الذى لا أعرف هويته حتى الآن وقد تطاير الشرر من عينيه
صاح الطبيب بدوره أيضا:
-إنت مين وازاى تتكلم معايا كده؟
صاحب السيارة: أنا الرائد محمد عبد الحكيم رئيس مباحث منطقة جنوب شرق الوادى..هكذا انطلقت الكلمات من فمه كالرصاص
خيم الصمت على الجميع ونظر كل منهم للآخر ،وراحوا يلملمون بقايا الطعام فى إرتباك شديد ويهندمون ملابسهم ويعتدلون فى وقفتهم ،وطفلى فى تلك اللحظة لا ينقطع عن البكاء والصراخ
ازدرد الطبيب ريقه بصعوبه وأسرع يلتقط الطفل منى ويتفحصه على سرير رث متسخ فنادى بأعلى صوته وكأنه تفاجئ بشئ :
-ياصفاء ..غيرى الملاية بسرعة
والتفت إلينا:
-إحنا بنغيرها كل يوم
رد صاحب السيارة بشئ من البرود المقنع بالتفهم :
-مفهوم..مفهوم
انتهى الطبيب من الفحص وأشار لأحد العاملين:
-هاتلنا يا أحمد عينات من الأدوية الجديدة عشان الباشا
فقلت له فى خجل:
-لا شكرا يا دكتور ..إحنا هنجيب العلاج
-إزاى دا واجبكم ..إنتى عاوزة الباشا يزعل مننا
فرد الضابط فى تجهم وأشار لى بيده:
-سيبيه يامدام..هات العلاج
خرجنا من المستشفى وما إن دخلنا السيارة وراحت زوجة الضابط فى نوبة من الضحك الهستيرى:
-دول صدقوا إنك ظابط ياعلى
سألته فى لهفه:
-هو حضرتك مش ظابط؟؟
-لأ..أنا مهندس برمجيات..حمد الله على السلامة ..إحنا وصلنا..دا بيتك؟
احتضنت طفلى وضممته إلى بحنو شديد وقد هدأت حرارته وصراخه
وتذكرت عندما تركنا زوجى وانقطعت أخباره من شهور وكيف كان يحبنى ويلازمنى إلى أن سافر بحثا عن لقمه العيش
استفقت على صوت الزوجه
-مالك..خايفه عليه كده ليه؟ الحمد لله بقي كويس
فقلت لها بصوت يشوبه اليأس:
-بعد اللى شوفته النهاردة ..لازم أخاف عليه
تمت بحمد الله

اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading