العاصمة

ذكرى

0

 

بقلم: محمود الجندى

 

أنهـيـت عــملًا شـاقـًـا الـيـوم، فـقـد كـان عـلى إنهـاء بعـض المـهــام قـبـــل بـدء إجـازتـى للاصـطـيـاف فـى الـغــد، أسـنـدت ظـهــرى إلـى المـقـعــد و أغـمضــت عـيـنىَّ، كـنـت متـعـبًـا، و أحـتـاج فـعـلا إلـى الـراحـة، و أشـتـاق كـثيرا لأسرتى. أبــى لـم لا تـأتـى معـنـا الآن؟ لـدى فـى العـمـل مـا يمـنـعــنى، و سـألــحـق بكـم فـيــما بعـد. فـلتعـدنـى إذن أن لا تـتـأخـر.

فـتـحـت عـيـنى و نـظـرت إلـى الساعـة، و جـدتهـا قـد جـاوزت الرابعة عـصرًا، لملمت أوراقـى و حـمـلت حـقـيـبـتى و خـرجت من الغـرفة، و فى اتجـاهى للسلم مررت بغـرفـة مديـرى، كـان بابها مفـتوحا، ماذا؟! طـلـب إجــازة!! لـيـس بعـد، لتـتـم مـا بـدأت أولا. لـم أشـأ أن يـرانـى و تسللت مسـرعًـا تجـاه السلم، لكـنه لم يمهـلـنى و سبـقـنـى صـوته إلـى الدرج يسـتـوقـفـنى، ألـجـمـتـنى المفاجأة لكننى استدرت لـمواجهـتـه فـإذا بابتسـامته تنعـكس عـلـى شفـتـى و صـافحـنى متمنيا لـى إجـازة ممتـعـة، شـكـرت لطـفه و انـصـرفـت مـتـوجـهـا إلــى سيـارتـى.

فى الطـريق إلى مطعـم اعـتدت ارتـيـاده فى مثل هـذه الظـروف، زحفـت السيارة وسط الزحـام ببطء، الهواء الثقـيل يجـثـم عـلى صدرى، و حرارة الشمس تسيل عـلى وجهى، الأصوات تـقـرع أذنى فى إيقاع غـريب، و صفارة حارس الشاطئ تحذر المبتعـدين حـتى لا تخـتـطـفهم الأمـواج، و كـانوا هـم هـنـاك بين الجـمـوع حـيـث التـقـطـتهـم عـيـنـاى، انعـطـفـت يمـيـنـا مـبـتـعـدا عــن الزحـام، و أوقـفـت السيارة و تركتها بين السيارات الراقدة قـرب المطعـم.

داعبت رائحة الطعام شهيتى المتلهفة و النادل يضعه على المائدة، كان جديدا في المكان فلم أره هنا من قبل، لكنه، و بالرغم من ذلك، بدا لي و كأننى أعرفه من قبل. فعيناه مألوفتان بالنسبة لى إلا أنهما بدتا أصغرسنا أو ربما أكبر. و بعد أن فرغ من رص الطاولة سألنى إن كنت أرغب فى شيئ آخر؟ فأومأت بالنفى فأشاح بوجهه عنى مرتبكا مما زاد فضولى فى تذكر أين رأيته من قبل؟ و انهمكت مع الأكل فى البحث عنه داخل رأسي.

بوجهه الفضى و تموجاته بيضاء الحواف يمتد البحر أمامى ممسكًا بأطراف السماء، اليدان الصغيرتان منهمكتان فى البناء، والقلعة الرملية كانت قد أوشكت عـلى الانتهاء حين اقتربتُ، وأخيرا تذكرته و هو يخرج من باب المطعم بعد أن استأذن، فتركت الحساب على الطاولة و اندفعت إلى الخارج لألحق به.

الدماء تغطى وجهه وجسده، والتروللى يحمله مهرولا إلى غرفة العمليات، و بعد إغلاق الباب علا نحيب الزوجة و الأبناء يتشبثون بها بينما جاءنى هو، أمسكتُ بيده فألتفتَ إلىَّ وهو يرمقنى بحنق ماذا تريد؟ قلتُ له كيف حالك و حال أخوتك؟ منذ زمن و لم أرك. ألا تذكرنى؟ بلى و ليتنى لا أذكرك. فقلت مستنكرا لم تقول هذا؟ قال و لِمَ أذكرك و أنت أو غيرك لم يذكرنا و كأن أبانا لم يكن أحدكم. لماذا تخاذلتم و تأخرتم عنا و تركتمونا من بعده تتقاذفنا الأيام و تسحقنا الحاجة لأجدنى مرتديا لباس المسؤولية الخشن بدلا من نعـومة الزى المدرسى و تحت وطأة الكدح بعـد دلال الطفولة. إليك عنى و كفانا منكم التنكر و النسيان. وأدار ظهره لى ومضى.

وخزت قلبى كلماته و تجمدت فى مكانى تغمر قدمىَّ المياه و البحر يرشقنى برذاذه لا يتحرك منى سوى عينىَّ اللتين تشبثتا به حتى ذابت صورته بين أمواج الناس الهادرة، و جاءنى صوت ابنتى معاتبا أبى لم

تأخرت!؟

اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading