العاصمة

انا وقميحةبقلم ليلى حسين

0
بقلم ليلى حسين
كان لى ضفيرتان مدمجتان كسنابل القمح ..
خفيفة كريشة ، سريعة
.. كثيرة الحركة .. تعليقاتى و إجاباتى دائما
جاهزة و بثقة ، رغم المسافة الشاسعة بينى و بين العقل و الحكمة ..
فى مدرستى الثانوية النموذجية المنظومة فى أوج جمالها و نظامها و تفوقها .. المدرسة بالنسبة
لى ملاذ لهواياتى و لم يكن حبى للتعليم هو الهدف الأول بل كان الهدف الأخير .. ..
الإذاعة المدرسية تستولى على كيانى .. مكتبة المدرسة و أميناتها .. روايات إحسان عبد القدوس
و يوسف السباعى .. ندوات الأدب .. التزاور المدرسى .. المراسلات و التعرف على الآخر .. كل
عالمى و اولوياتى .. ابتهج بالرسم و مجلات الحائط و الغناء .. نزار ظاهرة نتبادل كتبه فى
خفية و خجل .. فيروز تصدح و أعيش الحب معها و ترانيم الوطن .. تستولى على نبتة البانسيه فى
حديقة المدرسة و ينبثق بيننا حوار اللون و الحزن .. أصنع بطاقات الورد مكللة بالبساطة و الجمال ..
لا أميل إلى مدرس و دروس الرياضة بما فيها من هندسة فراغية و ديناميكا و استاتيكا و جبر لم
يجبر خاطرى أبدا ..
أما الكيمياء فلم اتفاعل معها يوما .. كنت أهرب
من جفاء المواد العلمية إلى مبنى الأدبى و أنحشر بين صديقاتى في توجس احيانا و بروح المغامرة
احيانا أخرى ..
مدرس التاريخ بملامحه الذكية الأمينة السمراء
يشرح الدرس و يشرع فى الأسئلة و كل مرة يهددنى بإبلاغ إدارة المدرسة عن هروبى .. فيذعن
حين تنتفخ و تحمر وجنتى من دمعاتى المكتومة .. و يتراجع فى قراره الذى قد يتسبب فى فصلى ..
ألعن القسم العلمى الذى التحقت به لإرضاء أهلى و النظرة المستقبلية ذلك الحائل بينى و بين ميولى و
جنونى .. أين حقى .. لماذا بلعت لسانى .. و اين الحرية المزعومة ..
فى حال التعذر فى الحصول على درس تاريخ كنت افر إلى درس اللغة العربية فأفر إلى حصصها و قد
استسلم الأستاذ لرغبتى و ميولى و تصميمى ألا أخذل الفصحى العامرة الكريمة الباذخة .. المنهج
موحد بين صفوف العلمى و الأدبى .. و كنت اتفوق على بنات الفصل فى النحو و الإلقاء ..
احترم أستاذى الذى طالما فررت إلى فصله .. فهو أمين .. رفيع الثقافة و الخلق .. دائما يساندنى و
يوجهنى .. و أنا اعرض عليه كتاباتى فى مرحلة البراءة .. لم يكن بينه و بين مدرس فصلى فى
مبنى العلمى أى وجه للمقارنة .. سألنى يوما عن طموحاتى .. ماذا اود ان اكون .. ؟
بلا تردد و بسرعة كانت إجابتى : ” راقصة ” ..
اندلعت و اندفعت طموحاتى كالصاعقة … و تكرر
السؤال .. و تكررت الإجابة ..
” احب الرقص بأنواعه .. كل مدارسه .. لكن
تشدنى فتيات الباليه الروسى ” .. استرد أستاذى بعض انفاسه ناصحا:
” فاتك الوقت .. التدريب يبدأ من العام الرابع فى العمر فاتتك الفرصة “
” إذن .. أكون صحفية ” .. أجبته بسرعة و اعلنت تغيير مسار الحلم ..
أستاذى” جابر قميحة ” كان يعد دراساته العليا جميل اللغة رائع البيان .. يحاورنى و يدعم ميولى
و هواياتى .. لم يفعل كما فعل مدرس فصلى ” كمال الشيخ “حين طلب كتابة موضوع تعبير عن
الحرية .. فكتبت عن حرية الطفل و حرية البنات .. حرية اللعب و الاختيار و الزواج .. حرية المجتمع
.. و حرية الفكر .. حقى فى السفر .. حقى فى ركوب دراجة بخارية .. انطلقت و كتبت ” اننا
نعيش فى سجن كبير ” و ان الحرية حبر على الورق .. تحدثت عن الأمان المفتقد .. لا أدرى من
اين و كيف تهطل الكلمات ؟!
كتبت بتدفق أكثر من ثلاث صفحات .. كتبت عن
سجن كبير تحيطنا اسواره و لم تكن مصر قد توسعت بعد فى بناء السجون ..
كانت صفحاتى خالية من أخطاء الكتابة و النحو إلى حد ما تتناسب مع طالبة الصف الثانى الثانوى
..
كانت الطامة الكبرى .. نهرنى المعلم و حصلت على درجة الرسوب … ثلاثة درجات من عشر ..
اعترضت على درجة التقييم .. فأخبرنى بحدة ان ليس من حقى الاعتراض .. و ان تعبيراتى تخلو
من الالتزام و الاتزان و الحياء .. كيف تطلب منا الكتابة عن الحرية و تصادر حقى فيها و حق
الاعتراض .. كيف تقيد الفكرة و الحلم بالأغلال أيها المعلم السجان ..
كان الفاصل بين مدرستى و بين حديقة انور
السادات سور الملعب و بعض رجال الأمن .. ..هددته ان اشكوه لرئيس الجمهورية فى رسالة لو
لم يصحح درجتى و يرفع قدرى امام زميلاتى .. ..
ارتفع صوته .. و طردت خارج الفصل .. ارسلت
المدرسة خطاب ” استدعاء ولى أمر ” ..
فى حجرة اللغة العربية و الدموع المتحجرة تجثم
على انفاسى استأذنت أستاذى جابر قميحة أن اقرأ ما كتبت و دون ان أطلعه على درجتى المخجلة ..
أخذ ينصت باهتمام شديد ..
سألته كم من درجة تستحق الحرية .. ؟!
قال ” تسع درجات ” .. انهمرت دموعى أخيرا ..أخبرته بخوفى من غضب ابى حين ياتى ليفصل
فى المشكلة .. ..
حين جاء ابى عاتبنى ونهرنى بشدة أمام المديرة و الأستاذ كمال الذى اتهمنى بالشغب و الضحك اثناء
الدرس .. اتهمنى بالتمرد .. و لم افهم معنى ” التمرد ” إلا فى زمن لاحق .. أُجْبرت على الاعتذار
لمعلم الفصل و شعرت بالضعف داخلى .. لكن الأربعين كيلو جراما كانت تحمل جديلتين
راسختين لوجه مصرى التكوين و عينين لون القهوة و ابتسامة لاتنقشع مهما كان الموقف و
التحدى ..
بعد انصراف أبى .. أخبرت بنات الفصل انى استحق امتياز و كمال بدون أستاذ يستحق
كراهيتى .. و أخذت أقلد سخافاته و ثقل ظله و نضحك .. بدأت التعامل معه بندية شديدة ..
كبرت .. و ازداد احترامى و تقديرى للدكتور جابر قميحة الذى علمنى الإلقاء و اللغة و يدعم تفكيرى و تكوينى و يرسخ طموحاتى فى مجال الكلمة ..
اعتنق د. قميحة العمل الصحفى .. اما انا .. فما زلت هاوية .. لم أجد من يأخذ بيدى ..
لكننى مازلت كالنخلة الأم راسخة أفتح أقفاص العصافير لتنعم بالحرية .. و أشرع أجنحتى فى
فضاء الحلم و أرفرف

اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading