العاصمة

الحجيج وأيام مَعدُودات  كتبت / ناهد عثمان 

0

الليلة الرابعة

يَلمُّ الحَجيجُ البياضَ في ثِيابِهم .. ونَشوةُ الفرحِ ؛ تَلتَمِعُ في العُيونِ !

تُسافرُ في ثِيابِهم ذِكرياتُ النَّبي ﷺ ؛ إذ أهلَّ حَاجًّا على سُنَّةِ إبراهِيم عليه السلام !

هنَا ..
تَتَكثَّفُ الصُور ُ.. وتَفيضُ أصواتُ من كَبّروا قَبلنا .. 


تَلتَئِمُ كأنَّها لَحظةٌ واحِدةٌ ؛ حتّى كأنَّ في الحجِيجِ أنفاسَ مَطايا الأنبِياءِ تَتَهادى صَوبَ البيتِ الحَرَام !

تَبدو القَوافلُ مُتعبَةً .. 


لا بَأسَ ؛ فهذا سَفَرٌ كُلّه إِياب .. سَفَرٌ ؛ كله لِقَاء ..


سَفَر ؛ لا اغتِرابَ فِيه ِ ولا عَذَاب !

يَشُدُّ الحَجيجُ ثِيابَهم ؛ على وَعدٍ أَن تَحِلَّ الثِيابُ بِشفاءٍ أبَديٍّ .. 


وعلى وعد صَوتِ القَبولِ ..


حَجٌّ مَبرورٌ ، وسَعيٌ مَشكورٌ ، وتِجارَةٌ لَنْ تَبور !

يَختارُ اللهُ لَهم لَونَ البَياضِ فِي شَعيرةٍ ؛ شَرط القَبولِ فيها { فَلا رَفَثَ ولا فسوقَ ولا جِدَال } ..


فَهذهِ رِحلةٌ مِنكَ إليْك ! 


رحلةُ الكَشْفِ عن مَدَى التَلَعثُم فِينا .. 


عَن مَن يَنثرُ الصُّبحُ من شَفَتَيه دَومًا .. 


وعن مَن يَبتَدِرُ الجَدَبَ يَحكِيه كلامًا !

الشعائِرُ جاءَتْ ..


كي لا نَحمِل المَوتَ كلاماً في أفْواهِنا .. 


كَي نَكتَشِفَ كم نَملكُ مِن المَاءِ والعُشبِ في حمولَتِنا !

وكم واحدٍ مِنا .. يُحْسِنُ الصَّمتَ الذي يُحيينا ؛ إذ بَعضُ الحَديثِ جِراح !

لونُ البَياضِ مُقتَرنٌ بِـ( لَبيكَ الَّلهمَّ لبَيك) .. وكلُّ صَوتٍ مَنقوصٍ مِنه (لَبيك) ؛ فَهو صَوتُ هَزيعِ الّليل !


فما التلبية ؟ .. أتراها بياض الصحيفة عما سوى الله .. 


يَسمعُ اللهُ التَّلبيةَ .. فَهل يَسمعُ مَعَها خَطَواتِنا تَرحلُ عَبر التَّراتيلِ إليه .. فقط إليه ؟!


ترى هَل يَخلقُ هذا السَّفَرُ فينا الصَّحْوَة ؟!

تُرى .. كَم أَكَلَت طُرقاتُ مَكّة من أقدام الحَجيج !!


أَهذا يَكفي ؛ كَي يَهدي اللهُ بَعدَها مَفاتيحَ القَبول ؟!

أم أنّ اللهَ يُريدُ مِن الأقْدَامِ ؛ إِقدَامًا ؟!
ومن التَّلبيةِ ؛ أنْ تَصبَّ فينا تَربية ؟!

إن الدربَ منَ الشَعيرَة إلى المَعنى ؛ طَويلٌ .. وهَذا ما يريدُ الله لكَ أنْ تَقطَعَه !

يرتفعُ صوتُ الحَجيجِ ، وتَتَكرَّرُ التَّلبيةُ في غايَةٍ مَقصودَةٍ من الشَّريعة ؛ أنْ تَمتلكَ الذَّاكرةُ عِبارة َ:
( لبَيكَ الَّلهمَّ لَبيك ) ..

تَنسابُ أحْرفُ الكَلماتِ مِن كَثْرَةِ التّرداد إلى الوَعي الجَمَاعِي .. وتُرسلُ الأسئِلةُ إلى عُمقِنا :
هلْ لَبيكَ اللهم لبيك تُشغِلُنا ؛ حتىّ تَسحَبُنا إلى انسجِامٍ مَعَ الله لا يفلَح معَه ألفُ شَهوَةٍ وشَهوة ، وفَوضًى أخْلاقِيَّة في تَكديره ؟!

انسجامٌ معَ الله ..
تَتهاوى أمَامَه مَعارِكَنا الاجْتِماعيّة .. جِدالُنا .. لَغْوُنَا .. وفَوضَى ألْسِنَتِنا !؟

تُرى ..
كيفَ يَمتَلكُ الحَجيجُ أَلسَنَتهم ..
كيفَ يَتحاشونَ الكَلماتِ ويَهربُوَن مِنها ..
كَيفَ يَخشونَ أنْ تَسقطَ كَلمةٌ على الثِّياب البَيضاء ؛ فَيلتَمِعُ السَّوادُ ويَنتَبه النّاس ؟!

كأنَّ الكَلامَ إذا اعتَمَ ؛ ظَهرَ في الثِّياب .. وأشارَ إلى صَاحِبه قائِلًا : هَذا عَبدٌ باطِنَه لَيسَ كَظاهِرِه !

وحينها ما قَيمَةُ زِينَتِنا الخَارجِيّة .. واللهُ يريدُ زينَتك الدَّاخلية !!

هل تَخيلتَ ذاتَ يومٍ .. أنّ الأعمالَ عندَ الله ألوانًا !
رُبَّ كلمة ..ٍ تُبعثُ يَومَ القيامَةِ بِلونِ النَّزيف ؛ لِشدَّة ما أَثْخَنَت مِن الجِراحِ فِينا !

{ فلا رَفَثَ ولَا فسوقَ ولا جِدال } .. لماذا ؟
هل هذه دُروبُ عذابِنا ؛ التّي تُوقِفُنا على هاويةِ الجَحيمِ كلّ لَيلة ؟

في هذه الأرضِ المَسكونَة بَضجيجِ الكَلماتِ ؛ يأتي الحَجُّ ليقولَ لكَ :
لا تَرحل إلى الله بِصحيفَةٍ مُثخَنَةٍ بِجراحِ الِّلسان !

لا تَرحل إلى الله بِعمَلٍ واهِنٍ ؛ مَنضوبٍ من حُقوقِ النّاس !
بَعضُ الكَلِمِ فَجيعةٌ يومَ القِيامَة .. بَعضُ الكلِم يَقودُنا إلى الحَريق !

إنّ مَهمةَ الشّعائِرِ ؛ أنْ تَرفعَ لَك الكَلِمَ الطَّيب .. { إليه يَصعدُ الكلمُ الطَّيبُ والعَمَلُ الصَّالحُ يَرفَعه } ..

كأنّ الكَلمَ الطّيب .. يَتكِئُ على العَملِ الصَّالحِ ؛ فإذا رَفَعَه ارتَفَع !

فيا رب نَعوذُ بكَ أنْ نَمتَطِيَ المَطايَا إليكَ ؛ ثم نَتوهً عمَّا تُريدُ منَّا إليْك !

اترك رد

آخر الأخبار