الجنيهات المفقودة
بقلم : محمود الجندى
نـقـطـة عـرق سقـطـت من جبهـتى عـلى الجـريدة و أنا أتصفـحها، حـيـنها ازداد شعـورى بلزوجة الجـو و انقـطـعـت رغـبـتى فـى متابعة القراءة فألقيت الجريدة على النضد أمامى.
كــان الجـو حــارا عـلى غـيـر المعـتـاد فـى هـذه الفـتـرة مـن العــام، كـمـا كـانت الرطوبة مرتفعـة أيضا، نعم! إن الهواء متوقـف عن الحركة من قـبل الظهيرة و ها قد تخـطى الوقـت فـترة الظهيرة بكثير، و رغم انكسـار أشعة الشمس تمـامـا إلا أن الحرارة و الرطوبة ما زالتا مرتفعتين.
كان وجه السـمـاء المنبسـط أمـامى شـاحـبـا خـاليـا من السحب، و كانت الطريق المؤدية إلى القـريـة المجــاورة ممـتـدة أمـام الشرفـة الـتـى أجـلـس فــيها و قـد خـلـت مـن الـنـاس إلا مـن ذلـك القـــادم مـن بـعــيـد، و الـذى كــان بـخـطــواتـه المتوثبة – و التى دفعـنى بها إلى متابعـته – مصدر الحـركة الوحـيدة وسـط هـذا السكون من حولى.
و حين اقـتـرب ببنطـالـه البـنى الداكـن الـذى تهالكـت أنسجـته، و قـمـيصه الذى تعامدت خـطـوط ألوانه البـاهـتة و قـد اتسخـت قماشته البالية، تكشفـت صفـحـة وجهه البيضاوى عن بشرة سمراء، نحتت تجاعيدها الخفيفة عبر الزمان بشكل لايوحى بشيخوخة و لا ينم عن هِرَم، بل اخـتبأت حـول عـروق رقـبـته النـافـرة، و بين ثـنـيـات جـفـونه حيث تجمعـت قطرات عـرق سالت من جبينه تحت عينيه الصافيتين و اللتين تطل منهـما نـظـرة باسمة ليست عن سعادة و لكن عن رضًا و قناعة و التـى أضاءت وجهه الذى ما لبث أن تجهم فجـأة و انـقـبضت ملامحه حـيـن أخذ يتحسس جيوبه فى سرعة و توتر و قـد امتدت نظراته القـلقة إلـى ما حـولـه من أرض الطـريق الترابية، بينما أخـذت خـطـواته المشتتة تتردد هـنــــا وهنــاك فـى حيرة و اضطراب، لكنها لم تدم طويلا فقـد تشبثت قدماه بالأرض و تسمرتا فى وجوم شديد سرى إلى جسده كله، حينها كنت قد وصلت إليه بعد أن هبطت الدرجات الثلاث التى تفصل الشرفة عن الطريق و عندما سألته عن ماذا تبحـث؟ أجــاب فى صوت خـافت: نقودى، أجرة اليوم، ثم أطرق الرجل حزينا…
بعدها رحنا ننظر هنا و هناك باحثين من جديد عـن النقـود و لكـن السـراب كـان أقـرب إلينا منها، و تسربت منى نظرات إليه، كـان واجـمـا، تسيـل شفـتاه ندمـا، و تعتصر يداه الهواء حنقا، قطعتين من اليأس كانت عيناه حينما نظر إلى و هـز رأسه فـى أسـف معـلنـا بذلـك موت أمـله، ثـم شكـرنى و مشى تزحـف خـطـواته المثقـلة على أرض الطريق، شـاردا بذهنه عن كل ما حوله مفكرا فى أمر النقود التى ربما لا يمتلك سواهـا، و الـتى قـد تمثـل قـوته و قـوت أسرته ليوم أو حـتى ليومين، و قبل أن ينعـطـف يمينا مع الطـريـق حــانت مـنه التفـاتـة إلــى الـوراء مشيعًـا بنظراته اليائسة يومه الضائع و الذى أبدا لن يعـود.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.