
حدود المعرفة في النظريات الإنسانية: نقد الإطلاق المعرفي معلومات ذكاء اصطناعي
بتصرف ربا رباعي // الأردن
المقدمة:
تقوم المعرفة الإنسانية، ولا سيما في ميادين الأدب والفكر واللغة، على سعيٍ دائم نحو الفهم والتفسير. وفي هذا المسار، تتبلور النظريات بوصفها محاولات للاقتراب من الحقيقة أو من الظواهر التي تحكم السلوك البشري والأنظمة الثقافية. غير أن بعض هذه النظريات تنزلق إلى منزلق “الإطلاق المعرفي”، أي تدعي القطع واليقين بما تقدمه من نتائج، متجاهلةً الطابع النسبي والمعقّد للواقع الذي تتعامل معه. في هذا السياق، يصبح النقد الاستقرائي أداة ضرورية لفضح مواطن الخلل في هذه الادعاءات، ولفتح الباب أمام التفكير المتجدد والتواضع المعرفي.
المقال:
تواجه كثير من النظريات، خاصة في ميدان العلوم الإنسانية، مشكلة معرفية خطيرة تُعرف باسم “الإطلاق المعرفي”. وتتمثل هذه المشكلة في افتراض أن ما تنتجه هذه النظريات من قواعد أو نتائج هو حقائق قطعية لا تقبل المراجعة أو النقد. وهذا يؤدي غالبًا إلى صدامات فكرية وجدالات محتدمة بين التيارات المختلفة، حيث يسعى كل طرف إلى إثبات صحة ما يتبناه، وغالبًا دون مساءلة الجذور المنهجية التي قامت عليها تلك النتائج.
أحد المحاور الجوهرية في فهم هذه الإشكالية يرتبط بطبيعة الاستقراء الذي تُبنى عليه كثير من النظريات. فالاستقراء هو العملية التي تبدأ من ملاحظة الجزئيات والتفاصيل، وتنتهي باستخلاص قاعدة كلية تربط تلك الجزئيات ببعضها. لكنه ينقسم إلى نوعين: استقراء تام، واستقراء ناقص.
الاستقراء التام هو ما يتم فيه فحص شامل لكل جزئيات الظاهرة قيد الدراسة، مما يمنح القاعدة المستخلصة منه درجة عالية من الموثوقية واليقين. أما الاستقراء الناقص، وهو الأكثر شيوعًا، فيعتمد على تحليل عيّنة من الجزئيات، ثم تعميم الحكم المستخرج منها على الكل، مع افتراض أن العينة تمثل الظاهرة تمثيلًا كافيًا.
وهنا تتجلى الإشكالية: أغلب النظريات الإنسانية، كالنظريات الأدبية واللغوية والاجتماعية، تقوم في جوهرها على الاستقراء الناقص. وذلك ليس بسبب ضعف منهجي متعمد، بل لأن الاستقراء التام يكاد يكون مستحيلًا في ميدان تتعذر فيه الإحاطة بكل الجزئيات المنتشرة في الزمان والمكان. ومع ذلك، يقع بعض الباحثين والمنظّرين في خطأ تعميم النتائج المستخلصة من هذا الاستقراء الناقص وكأنها حقائق مطلقة.
مثال على ذلك ما يُطرح في العَروض العربي حول جواز “الكفّ” في بحر الطويل. فقد استند بعض الدارسين إلى شواهد محدودة وربما نادرة، ليُقرّوا جواز هذه الظاهرة العروضية، رغم أن الذوق السليم والسمع الإيقاعي لا يؤيدان هذا الحكم. ويزداد الأمر تعقيدًا إذا كانت تلك الشواهد نفسها موضع شك، أو ذات مصدر غير موثوق، مما يُفقد القاعدة المستخلصة مشروعيتها العلمية.
هذه الحالة تكشف عن مشكلة أعمق، وهي الاعتماد على نصوص قد تكون فريدة أو غير ممثّلة، لاستخلاص قواعد يُراد لها أن تكون عامة. وهو ما يضعف الثقة في كثير من النتائج التي تدّعي الإطلاق المعرفي دون أن يكون لها سند منهجي متين. فالنظرية، كي تكتسب شرعيتها، لا بد أن تنبني على استقراء واسع، لا مجرد شواهد معزولة، فضلاً عن ضرورة إخضاعها لمراجعة نقدية مستمرة.
وحتى النظريات الأكثر رسوخًا، التي تستند إلى استقراء واسع وشواهد متنوعة، لا تصل – من حيث الصرامة – إلى مرتبة القانون العلمي في فروع العلوم الطبيعية، التي تتميز بقدرتها على التكرار والتجريب. فالعامل الذوقي، والنفسي، والاجتماعي، والثقافي، جميعها تتداخل في بناء النتائج الإنسانية، مما يجعل الإطلاق المطلق للمعرفة أمرًا متعذرًا.
الخاتمة:
إن النظريات الإنسانية بطبيعتها نسبية، وتقوم على مساحات من التأويل والتفاعل الثقافي والمعرفي. لذلك فإن ادّعاء الإطلاق المعرفي، خاصة حين يُبنى على استقراء ناقص أو شواهد ضعيفة، هو انزلاق منهجي ينبغي التحذير منه. المعرفة الإنسانية تتقدم بالنقد، وتتطور بالمراجعة، ولا تنمو إلا بوعيٍ دائم بمحدوديتها. إن فتح المجال أمام المساءلة المنهجية لا يُضعف النظرية، بل يُقويها ويجعلها أكثر مرونة واستجابةً للتحولات. ولذلك، فإن النقد الاستقرائي يبقى أداة مركزية لحماية الفكر الإنساني من أوهام القطع والجمود.
المراجع:
1. الجابري، محمد عابد. بنية العقل العربي. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986.
2. علي، عبد الله درويش. منطق الاستقراء في الفكر الإسلامي والفلسفي الحديث. دار الفكر العربي، القاهرة، 2002.
3. طه عبد الرحمن. سؤال المنهج. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996.
4. زكريا، فؤاد. التفكير العلمي. سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978.
5. غولدنر، ألفين. الأزمة في النظرية الاجتماعية. ترجمة حسن قبيسي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008.
اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.