العاصمة

فقدان الذاكرة – سلوى زكري

0

 

سؤال يطرح نفسه: من يتمنى أن يفقد الذاكرة؟
سؤال آخر: هل فقدان الذاكرة الذي نتمناه يشمل كل حياتنا الماضية، أم بعضًا منها فقط؟ أم أنه يقتصر على أحداث محددة، أو على بعض العلاقات والشخصيات فيها؟
كلها أسئلة تدور في أذهاننا، أو بالأحرى هي صراع داخلي بين العقل والقلب، بين الرغبة وعدم الرغبة، بين الاحتفاظ وعدم الاحتفاظ، بين دروس تعلمنا منها وبين أوجاع وصدمات كثيرة. إنه صراع بين العقل والقلب.

ولكن، هل فقدان الذاكرة هو الحل، أم أنه مجرد هروب من الذات؟ أم أنه محاولة لإقناع أنفسنا بأننا حديثو الولادة، نعود إلى الفطرة الأولى ونبدأ من جديد؟ حديثو الولادة في مراحلهم الأولى يتعلمون كل شيء من جديد: الخطوات الأولى، الحروف الأولى، الفكرة الأولى… فهل أن نصبح أشخاصًا جددًا هو الحل؟ أم أننا، حتى لو فقدنا الذاكرة وأصبحنا حديثي الولادة، لن ننجو؟ سنظل في مرحلةٍ لم يتفقوا فيها بعد على اختيار اسمٍ لنا!

نعم، يصل الصراع بين العقل والقلب أحيانًا إلى الرغبة في الهروب، ليس فقط من الذات، بل من تغيير كل ما حولنا، مهما كان جوهريًا. وبعد كل هذا الصراع الداخلي، أي كفة تربح؟ وهل المسألة من الاساس تُقاس بمفهوم الربح والخسارة؟ أم أن حياة الإنسان أكبر وأسمى من أن نقيمها بمقاييس المكسب والخسارة، وكأنها صفقة تجارية أو استثمار في البورصة؟

النفس البشرية مخلوقة من قبل إله غير محدود، إله المستحيلات، الذي لا يترك نفسًا موجوعة أو متألمة، ولا يترك نفسًا جائعة أو عطشى. فقد قيل: “إن نسيت الأم رضيعها، أنا لا أنساكم”، وقيل: “العصافير تجد طعامها”، وهو الخالق الذي أوقف الرياح حين هددت خليقته، الخالق الذي لا يغفل ولا ينام، فهو الحارس للبشرية كلها، الذي يسمح بالتجارب والألم، لكنه لا يتركنا وحدنا فيها.

إذا كنا نتمنى فقدان الذاكرة فقط كي لا نتذكر الأوجاع والصدمات والعلاقات المؤلمة، فهناك أمنية أسمى وأقيم: أن نحول هذه الآلام والأوجاع إلى دروس حقيقية، وأن نجعل التجارب وسيلةً حقيقيةً لنقترب من الخالق العظيم. هو لا يحتاج إلى عبادتنا، بل نحن من نحتاج إلى ربوبيته.

ربما يمنحنا فقدان الذاكرة فرصة لنصبح حديثي الولادة، لكن من يضمن ألا نقع في نفس الألم والتجارب والعلاقات والصدمات؟ إذن، ليس الحل في فقدان الذاكرة، فهي لا تمنحنا ولادة جديدة، وإنما الحل في الفكر الصالح، والحكمة الحقيقية، واللجوء إلى من له السلطان على حياتنا.

لقد خلقنا الله من حفنة من التراب، وهي ذات الحفنة مهما اختلفت أرواحنا. وكما قيل: “لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة”. نعم، لنجعل التغيير في أشكالنا من خلال تجديد أذهاننا، فهنا تكمن قيمة الإنسان.

لا تشاكلوا هذا الدهر، فقد كثرت فيه المحاربات والضغوطات، خاصةً على القلوب الرحيمة الطيبة. لكن لا تدعوا كثرة الخذلان تغيّركم، ففطرتكم رائعة. استمروا على قلوبكم الرحيمة وعقولكم المستنيرة، وكونوا دومًا وديعين كالحمام، لكن حكماء كالحيات، كي تتعلموا من الدروس مهما كانت صعوبتها، ومهما كانت ذكرياتها مؤلمة.

إذن، ليس الحل في فقدان الذاكرة، بل في التذكرة. فالذاكرة ترافقنا دائمًا كي لا نكرر نفس الأخطاء، بل نحول ما فيها من آلام إلى دروس، ونحولها إلى طاقة نور لخطوات جديدة. الولادة الجديدة ليست في فقدان الماضي، بل في تجاوز أخطائه، والتغيير الحقيقي يكون بتجديد أذهاننا، لا بإلغاء ذاكرتنا.

تحياتي للجميع.

اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

آخر الأخبار