النبأ الذي أذهلَ العقولَ وطيرَ الألبابَ
بقلم / محمـــــــد الدكـــــــرورى
ما هو هذا النبأ العظيم الذى أذهل العقول وطير الألباب حقا انه نبأٍ عظيم، وخطبٍ جليل، بل هو من
أعظمِ الأحداثِ التي مرَّت بأمة الإسلامِ، إنه نبأُ وفاةِ النبي صلى الله عليه وسلم ، ذلك النبأ الذي أذهلَ
العقولَ وطيرَ الألبابَ، ففي سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية، دهى المدينةَ خطبٌ، لا عزاءَ له، ففي
أواخرِ صفر في تلك السنة بُدىء برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أوَّلَ ذلك صُداعٌ، ألمَّ برأسِه
صلى الله عليه وسلم ، ثم حرارةٌ متَّقِدةٌ، كانوا يجدون سَوْرتها -؛أي: شدتها- فوقَ العصابةِ، التي عصبَ
بها رأسَه، وثقلَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم المرضُ، فجعلَ يسألُ أزواجَه: أين أنا غداً؟ أين أنا
غداً؟ ففهمْن مُرادَه، فأذِنَّ له صلى الله عليه وسلم أن يكونَ حيثُ شاءَ، فانتقل صلى الله عليه وسلم
إلى بيتِ عائشةَ رضي الله عنها، معصوب الرأسِ، تخطُّ رجلاه في الأرضِ، واشتدَّت وطأةُ المرضِ على
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في بيتِ عائشةَ رضي الله عنها، فقال صلى الله عليه وسلم :
«أهريقوا علي سبعَ قربٍ، لم تُحللْ أوْكِيتُهُن لعلِّي أعهدُ إلى الناسِ»، ففعلن رضي الله عنهن، ثم خرج
إلى الناسِ ف صلى بهم وخطبهم، وكان ذلك يومَ الأربعاء، قبل خمسة أيامٍ من وفاتِه، وكان مما قال في
خطبتِه تلك: «إن عبداً خيَّره اللهُ بين الدنيا وبين ما عندَ الله، فاختارَ ما عند الله» ، فبكى أبو بكر رضي
الله عنه ، فعجبَ الصحابةُ لبكائِه، قال الراوي: فكان المُخيَّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو
بكر رضي الله عنه أعلمَنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تبكِ يا أبا بكر، إن أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو
بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودتُه، لا يبقى في المسجد باب
إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر»، وكان مما قاله في خطبتِه تلك: «أوصيكم بالأنصارِ فاقبلوا من محسنِهم
وتجاوزوا عن مسيئِهم» ،ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتِه بعد خطبتِه تلك، وفي يوم
الخميس اشتدَّ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وجعُه، فقال: «ائتوني أكتبْ لكم كتاباً، لا تضلُّوا بعدَه
أبداً»، فاختلفوا عنده في المجيءِ بالكتابِ، فقال: «دعوني، فالذي أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه».
ومع شدِّةِ مرضِه كان يخرجُ يصلي بالناسِ، حتى كان ذلك اليومُ، ف صلى بهم المغربَ، وعند العشاءِ زاد
عليه الوجعُ، فلم يستطع الخروجَ إلى المسجدِ، فأرسل إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس،
فصلى بهم أبو بكر ما بقيَ من الصلواتِ في حياةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وفي أثناء تلك الأيام
العصيبة وجدَ صلى الله عليه وسلم من نفسِه خِفة، فخرجَ بين رجلين لصلاةِ الظهر، وأبو بكر يصلي
بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهبَ ليتأخَّر، فأومأَ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ألا تأخَّرَ، فجلس جنبَ أبي
بكر، فجعل أبو بكر يصلي بصلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، والناسُ يصلون بصلاةِ أبي بكر،
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قاعدٌ، واستمر المرضُ بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وفي فجرِ يومِ الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأولِ، عام أحدِ عشرٍ من الهجرةِ أقبل المؤمنون إلى
مسجدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، واصطفوا لصلاتهم خلفَ أبي بكر رضي الله عنه، فبيْنَا هم
كذلك رفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السِّترَ المضروبَ على منزلِ عائشةَ رضي الله عنها، وبرزَ
للناسِ، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتِهم؛ ابتهاجاً برؤيتِه صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا يُفسِّحون
له مكاناً، فأشار بيده أن اثبتوا على صلاتِكم، وتبسَّم صلى الله عليه وسلم فرحاً بهم، قال أنس رضي
الله عنه : ما رأيت رسولَ الله أحسنَ هيئةً منه في تلك الساعة، ثم رجعَ وأرخى السِّترَ، وانصرفَ
الناسُ، وهم يظنون أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أفاقَ من وجعِه وبرأَ، إلا أن الأمرَ كان بخلافِ
ذلك، حيث لم يأتِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقتُ صلاةٍ أخرى، بل اشتدَّ المرضُ عليه، ونزلَ به
في صباح يوم الاثنين، فطفِقَ يطرحُ خميصةً له على وجهِه، فإذا اغتمَّ كشفَها عن وجهِهِ، فقال وهو
كذلك: «لعنةُ الله على اليهودِ والنصارى؛ اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، يحذِّرُ ما صَنعوا» ،فكانت هذه
إحدى وصاياه عندَ موتِه، وكان يقولُ: « اللهمَّ أعنِّي على سَكَراتِ الموتِ» من شدةِ ما نزلَ به، وكان
صلى الله عليه وسلم يردِّدُ وهو في تلك الحالِ: « الصلاةَ، وما ملكت أيمانُكم» ، قال أنسٌ: ( حتى جعلَ
يغرغرُ بها في صدرِهِ، وما يفيضُ بها لسانُه ) وكان مما أوصى به عند موتِه: «أن أخرِجُوا المشركين من
جزيرةِ العرب»، فلما ثقُلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم جعَلَ يتغشَّاه الكربُ، فقالت فاطمةُ رضي
الله عنها لما رأت ما نزلَ بأبيها: وا كربَ أبتاه، فقال صلى الله عليه وسلم : « ليس على أبيك كربٌ بعدَ اليومِ»، فلما ارتفع ضحى ذلك اليومِ نزلَ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فأسندته عائشةُ رضي الله
عنها إلى صدرِها، قالت رضي الله عنها: إن من نعمِ اللهِ عليَّ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم توفي
في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن اللهَ جمع بين ريقي وريقِه عند موته؛ وذلك أن عبد
الرحمن بن أبي بكر دخل وبيدِه سواكٌ يستاك به، فنظرَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قالت
عائشةُ رضي الله عنها: فعلمت أنه يريدُه، فأخذتُه فقضمتُه وطيبتُه، ثم دفعتُه إليه، تقول عائشةُ رضي
الله عنها: فاستنَّ به أحسنَ ما كان استناناً، فما عدا أن فرغَ من السواك، حتى رفَعَ يدَه أو إصبعَه، ثم قال: «في الرِّفيق الأعلى، في الرِّفيق الأعلى، في الرِّفيق الأعلى، ثم قضى رسولُ اللهِ صلى الله