العاصمة

الحجيج وأيام مَعدُودات

0

 

كتبت / ناهد عثمان

الليلة السابعة

سبعُ ليالٍ يأكُلْنَ سَبعًا شِدادًا من انكساراتِنا !

كلُّ ليلةٍ .. كأنَّها دَهرٌ من فَجرٍ مُمتد ..

تَتهيَّأُ مَكةُ .. تَشعر أن فيها لحظَةً خَفِيِّة ؛ يَنتظرُها القادِمون ..

لَحظة .. ستُخرِجُ أعمقَ المكنونات .. فَليتَ دَمعَ الخَليقةِ يَكفي لتلك الّلحظة !

تقرأُ الشُجونَ في عيونِ العَاشِقينَ ..
تَرتجِفُ ذَواتُهم في مُقلِ الدّموع .. تَطفو الأمَاني على الأهدابِ الغَارِقَة في نَوْحٍ مَهيب ..

ما ظَنَّكم بِأُناسٍ يَرتحلون إلى الآخرةِ كلّ يومٍ مَرحَلة !

في مكة ..
لا أحَد يُحدِّقُ في القَاع ..
الكلُّ يُحدِّقُ في اللامُتناهي من العَطاء .. فتلك لحظةٌ لا تَتسعُ لها الأرضُ !

تلكَ لحظةٌ .. لا يعلُم سِرَّها إلا الله ..
لحظةٌ .. تُعيدُ تعريفَ السَّعادَة .. وتَبدو مَعَها كلُّ الأفراحِ صغيرَة !

ويا لله كيف تَنسجُ الشَّعائِرُ الحجيجَ شَيئًا فشيئًا ..
يَخلعونَ أسْمالَهم في اتجَاهِ القِبلة ..
ويَبكون هناك خَلوَةَ الذُّنوب !

يَتدفَقُ الألمُ إلى زوايا عَميقَةٍ في النّفوس ..
تَتلامَسُ الأصواتُ من تَشابِه الوَجَع ..
وتَخْفِقُ القُلوبُ لبَعضِ الدُّموع .. فَهذهِ دُموعٌ ؛ تَعرفُ الأرواحُ أسبابَها !

يكادُ قلبٌ ؛ أنْ يُرَبِّتَ على قَلبٍ ويقولُ له :
لا تَجزع .. فَعندَ الله مُتَّسعٌ لنا جميعًا !

َيشتهي الحَجيجُ لو يُغادرُهم الزَّمانُ ، ويَظلونَ مُعلقينَ بأسْتارِ الكعْبة .. يَفتَحونَ جراحَهُم عند الله ؛ يُخيطُها لهم ويَلتَئِمون !

في مَكة ؛ تَصغُر الأحزانُ ..
فَقط ؛ { اخلع نَعليكَ } ..
واخلَع نَفسَك ..
واخلعْ عَجْزَك ؛ { إَّنك بالوادِ المُقدَّسِ طوَى } !

تَعلمك الشعيرة أنّه ؛ { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } .. بهذه اللُّغة الشَاهِقَة ؛ يُهيِّؤُك الحجُّ للمعاني الشّاهِقة ..
ويقولُ لكَ : تنبه فإن البُعدُ عن الله هَشاشَةُ الرُّوح !

تَزدادُ هشَاشَتُنا .. كلما أسْرفْنا في الغِياب عن الله !

مُصابُنا ..
أننا لا نَشُمُّ ذنوبَنا إلا بعدَ وقوعِ الفَاجِعة !

مُصابُنا ..
أننا كلمّا وضَعنَا نهايَةً لِسطرٍ مشَؤومٍ ؛ جَاءَ الشَّيطانُ واسْتأنفَ الذَّنبَ !
الشّيطانُ يريدُ لك ؛ أن تَنتَهي حيثُ انتَهى !

فتأتي الشعائِرُ لِتُرَتِّل عليكَ { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } ..
الذنوبُ هي نُدوبُ الرُّوحِ ، لذا قَالَها العارِفونَ بالله :
مَن أطلَقَ هواهُ غُلَّتْ خُطَاه !

من أطلقَ بَصرَهُ ؛ فارَقَتْهُ الرُّؤى ..

ومن أرخى الزِّمامَ لِنفسِه ، وقالَ لها سِيري ؛ بَلَغتْ به المَحاق !

ألمْ يَقُلْ النَبيُّ ﷺ :(لأعلمَنّ أقوامًا من أمَتي ؛ يأتونَ يومَ القِيامَة بِحسناتٍ أمْثالَ جِبالِ تهامَة بِيضًا، فَيجعَلها اللهُ -عزّ وجل- هباءً مَنثورَا ً..
قال ثوبَان .. يا رسولَ الله صِفْهم لنا .. جَلِّهم لَنا .. أنْ لا نكونَ مِنهم ونَحنُ لا نعلم ؟!
قال : أمّا إنّهم إخوانُكم، ومِن جِلدَتكم، ويأخذونَ من الليلِ كَما تَأخذون ، ولكِّنهم أقوامٌ ؛ إذا خَلوا بِمحارِم الله انْتَهكوها ) !

كَما يَنتهكُ الشَيبُ سوَادَ الضَّفائِر .. فَيغتالُ الجَمالَ !

هو يُعلِّمك ؛ ” مَا لمْ تَكنْ جلداً على أزَماتهِ .. لا يَصْطَفيك ” ! .. فافهم معنى المرابطة على التعظيم ..

إن النفسَ إذا تَشبَّعتْ بالتقوى ؛ عَظُمَتِ الشَّعائِر !
لأنَّ التَّقوى هي ؛ القِيامُ للهِ .. ومن قـامَ للَّـهِ ؛ لـم يَقعـد حَتَّـى يَصلَ إلى اللَّهِ !

المُتَّقون هم ..
قَومٌ قَعدتْ عنهـمُ الشهوَاتُ ؛ فصـحَّ قيامَهـمْ باللَّهِ ..
( فَخَلِّ جِراحَك الدَّكناء ) ورَاءَك !

تُلقي الشعائِرُ ملامِحَها في وُجوهِنا ..
تَمتَزِجُ زَمزَمُ بِريقِ الحَجيج ..
لا شيءَ مَرئِيَ في الحَج إلا المَناسِك ..

لَكنَّك كُلما أصْغيتَ ؛ سَمعتَ صوتَ قَلبٍ يَمتلئ !

فيا لله .. كيفَ يَحتَفِي بِه الله .. ويَنْطِقُ مِنه الحَالُ ؛ { إَّنه كانَ بي حَفِيَّا } !

مَع كلِّ شعيرةٍ ؛ يَقلُّ اتِّساعُ الفَراغِ بَينَ الحَجيجِ وبينَ مناجَاةِ الله .. ويَبلغونَ مَقامَ { ولمْ أكنْ بِدعائِكَ ربِّ شقيًا } !

التَقِطِ المَعنَى من حِكايَة إبراهيمَ بنُ أَدْهَم .. يَنزلُ إلى السّوقِ ، وكانَ مُسرفًا على نَفسِه ، فَيجدُ ورقةً مُلقاةً على الأرضِ وقَد كُتبَ فيها اسمُ اللهِ تباركَ وتعالى ؛ والناسُ يَطَؤونَها بِأقدامِهم، وهم دَاخلونَ إلى السُوقِ وخَارِجونَ ما يَعلمون، فَأخذَ الورقَةَ، فنظرَ فإذا اسمُ الله فيه ، فَبَكى، وقالَ: سُبحانَ الله يُهانُ اسمُك هنا؟ لا والله، فَرَفَعَ هذه الورقَةَ ، وذهبَ بها ، وطَيَّبَها ، ورَفَعَها في بَيته، فَلما أمْسى ؛ سَمِع هاتِفاً يَقول :
يا مَنْ طيَّب اسمَ اللهِ ، وعَظَّمَ اسمَ الله ؛ ليُعظِّمنَّ اللُه اسمَك !

فَهداهُ اللهُ إلى التَّوبةِ النَّصوح، وأصبحَ من زُهَّادِ الإسْلام ، ومِن عُبَّادِ الإسلامِ ، وحينَ ماتَ ؛ اجتَمعتْ مَدينَتُه في جَنازَتِه أُلوفًا مُؤَلَّفَة من الأمَراءِ، وقَادَة الجَيش، والفُقراءِ والمَساكين، حتى وصَلوا المَقبرةَ ؛ وقدْ تَقطَّعت أحذِيَتُهم من كَثرةِ الزّحام !

يَتقهقَرُ الشَّيطانُ قبلَ الرَجْمِ .. تَمتَلئُ المَناسِك بِصوتِك ..
وتَفهمُ ؛ لماذا اختُصَّ الحجُّ بالتكبير !

فتَعظيمِ الله ..
هي اللَّحظةُ التي يُريدُ اللَه لكَ أن تَبلغَها ..
وتدرِك بها .. أنَّه لا تَصِحَ لكَ عبُودِيَّةٌ ؛ ما دَامَ لِغيرِ الله في قَلبِك بَقِيَّة !

اترك رد

آخر الأخبار