العاصمة

الحجيج وأيامٌ معدودات

0

 

كتبت /ناهد عثمان

الليلة الأولى
يَرحل الحجيج الى صَحراءَ تَحتضِنُ النُّور ..

يَنهضُ الحَجيجَ فيها مِثل السَّنابل .. كُلّ خطوة بِعَشرِ أمثالها ؛ واللهُ يُضاعف !

تحتشدُ الأشواقُ على مشارِف طَيْبة .. ويَنهمِرون في الحَنين للرّسول ﷺ ..
تشتَدُّ الخطواتُ نحوَ الرّوضة .. نتعثَّر في خَطايا ضَعفِنا ..

ويلقي الحَجيجُ رِحالهم في الرّوضة ..
تَصطخب الأصواتُ في نَحيبِ الحُبّ ..

وتعبّق السّماء بِدُعاءٍ شَجِيّ ..
تَتنّفس الّروضة المُباركة ..

وتَفيض بَركة النّبي حيّاً ومَيتاً !

هُنا مَراعي الأجر !
هُنا الغِنى !
هُنا النّحيب ؛ حُروف تَكتُب لكَ نصَّ الَقبول .. فَيا لله !

هُنا ..
يَسعى نُور الحَبيب ﷺ أبيضاً يَغمرك ؛ حتّى يَكفيك حَزن الّليالي التي أثقَلَت كاهِليك !

هُنا البَركة المَمدودة { رُطبَاً جَنِيّاً } لكلِّ مَن قال ؛ صلى الله وَبَارك عليك يا حَبيبي يا رسول !

السلّام عليكَ يا رسول الله ..
بيا النِّداء التي لا رِثاء فيها .. فقد أدَّيت الأمانة ، وبَقي علينا حُسن الوِراثة !

السَّلام عليكَ يا رسول الله .. ومِثلك لا يُهال عليه تُراب النّسيان ..
فقد كَتب الصَّحْب كلّ هَمسة ، وكلّ حَركة ، وكلّ إيماءة عَين !

كانت سِيرتك تَحمينا مِن الَمغيب .. لكنّا نسينا يا رسولَ الله ؛ أنَّ قَدر هذا الشّرق هو الذّبول إن لَم تَكُن أنتَ الدّليل !

السّلام عليكَ يا رسول الله ..

يا مَن جَعلت مِن المَسجد همزَة وَصل لكلِّ التَّائهين المُنقطعين عن الله .. فآوَيت فيه أهلَ الصُّفّة ، ورَبَّيت فيه شباب { العَادياتِ ضّبْحا } ..

شَباب .. لا تَعِرفهم الأكفانُ .. بل تَعرفهم خَرائط المدائن ؛ يَنبتون فيها فَتحاً لا يَغيب !

يَحِنُّ الجِذع إلى يَدٍ جعلته غُصناً خَالِداً في ربيعِ الجنّة .. و قد كانَ عُمره على أبعَد مَدى أعواماً قَصيرة !

وكذا كانَ الشّباب في كَفِّك لا حُزن فيهم ولا هَزيمة ..
كانوا شَجَراً تَصنعه أنتَ ؛ كيْ تُقاتِل بِه شجر الغَرقد الفَاسِد .. وكان الشَّباب مَعك لا يَهرَمون !
أكانَت تِلك بَركَتُك التي تَمسّ القَدر ؛ فَتنتهي بَعدها مواسِم القَحط !!

أم كانَت قانوناً ؛ تُعلِّمنا به مَعنى ( نُصِرتُ بالشَّباب) .. حيثُ لا جَدْب آناءَ المَواسِم كلها ؛ إذْ كانَ الشّباب على خُطى الأنبياء !!

السَّلام عليكَ .. والمَكان كلّه يَضجُّ بِذكرياتِ الحُجُرات .. يومَ كان صَوتُ الحِكمة في الحُجُرات مِثل صَوت المَطر ..

صَوت .. كانَ يَغسِل الدُّروب المُمتدّة إلى عَوالِم الفَتح الإسلاميّ !

كانَت الحُجرات مَستورةً في بَهاءِ الرِّعاية الإلهيّة .. حيثُ المَرأة التي تُوقِد لنا تَنُّور التَّغيير ؛ لا تَمسّها أعينُ العَابِرين !

كان للمُؤمنين أُمّهات يَلِدن للأمّة مَعانٍٍ خَصبة .. وكان النُّور يَسعى مِن بَياض السِّتر ؛ يَكشِف لنا كيفَ تنهضُ الشُّعوب من البُيوت العامِرة !

تَحمل لنا عائِشة – عَليها السَّلام – دِلاء الحَديث المُحَمّديّ ..
تَسكبه مِثل ماءٍ لا يَغيض ..
وتُعلِّمنا ؛ أنّ مُحَمّداً ﷺ كانت عَينه دوماً على السّماء ..

لذا .. لمْ يَنشغل بِصوت الخَراب ، وظلَّت عائِشة في عَينه نَهراً سَتحتاجه الأمّة ذاتَ يومٍ .. فظلَّ يَسقيها مِن بَحر عِلمه ؛ حتّى ارتَوينا بها جَميعاً !

هكذا كانَت المَرأة في عينِ النُّبوة ..
فسَلامٌ عليكَ يا رَسول الله !

تَعبُر حَفصة – عَليها السّلام – مِن غَضبها إلى صَدر الحَبيب ..

تَحطّ على بابِ قَلبه ، وتَفيض إليه بِكلِّ عَتَبها ..
ويَسمع عُمر – رَضي الله عنه – الصّوت عالياً ، ثمّ يَرى الحَبيب ﷺ كيف يُطفيء جَمْر الجِراح ..

ويتعلّم عُمَر ؛ أنَّ الرُّعود في البُيوت تَقتل للأُمّة كلّ الوُعود !

نحنُ نَعبُر إلى مَدائن الجنّة .. وإلى زَمن الفُتوحات ؛ إذا كُنّا مُدثّرين بِدروع بُيوتنا ..

رُبّما لأجلِ ذلك جاءَه أول نِداء في بيتِ خَديجة { يا أيُّها المُدَثِّر } ..
إذْ الُبيوت التي لمْ تَتدثر بالدِفء ؛ لا تَملك نَاصية الأحلام !

سَلامُ عَليك يا رَسول الله ..
يا مَن لا يَكفيك الحَنين مِنّا ولا بُكاء الحَجيج !

هل يَملك الحَجيج اليوم إلا الدُّموع !!
فهذا زَمن استثنائيّ يا رسول الله ..
حيثُ لا تُعَدّ الجَنائز ..
ولا مَراسم لِدفنِ المَوتى !

هذا زمنٌ استثنائيّ ..
حيثُ تَخبئ الأمَّهات دُموعَهنّ لِموتٍ أبشع مِمّا يستيقظن عليه !

هذا زمنٌ استثنائيّ ..
حَيث تَحتار أقلامنا بأيِّ العَواصم نبدأ كِتابة نَعيِ المَساء !

يهتزُّ الَمسك في الرّوضة بَهِيّاً .. تَبسِم المَلائكة للحَجيج ..

تَهِمس المدينة للقادِمين :
لا شِيء يِنفي الخِريف عنكم غيَر هَدْيِ مُحَمّد ؛ { فاَّتِبعوني } !

يَلتفت الحَجيج إلى المَعالم ..
هُنا ملامح النَّبوة ..
هُنا كانَ مُحَمّد ﷺ مُصَلِّياً عابداً ..
تتفَطّر قَدماه ..
وكانَ قلبه لا يَنام !

هُنا ..
مَضت بِه جَارية سَوداء ؛ فما تَلكَّأ في المَسير !

هُنا ..
أصغَى لِصَوتِ خَولة تَشكوه ظُلم العَشير !

هُنا ..
انتُصر لِبلال ؛ إذْ عيَّره أبو الدَّرداء – رضي الله عنه – بِأصلِه ، وأعلِن أنّه لا زال فِينا جَاهِليّة مُعَتَّقة !

هُنا ..
صَوت الوَحي يُعاتِبه ويَقول ؛ { تَبتَغِي مَرضَاتِ أزواجِك } ..
فَتُدرك الأُمّة ؛ أنّ لِكلٍ كتاب لَن { يُغادِرُ صَغيرةً ولا كَبيرة إلا أحْصَاها } !

وهُنا ..
تَشهدُ لَك المَدينة ؛ أنَّك كُنت دَوماً تَبتسم رغم الوَجع !

لمْ تَكن ( صَخّاباً ولا لَعّاناً ) ، وكان لِسانك صَموتاً ..
كنت كَلمة طَيّبة ، ودُعاء بالخَير ، وأذناً للمُتعَبين ؛ تَسترهم ولا تَفضحهم !

لكأنَّنا فارِغون مِن سِيرتك نحن .. مِثل خَيط انقَطع ؛ فَلا يَنسِج شَيئاًً !

فارِغون مِن هَديّك ، ومُتشَبِّثون بِمِسواك ونَافلة !

فارِغون مِن سُنَّتك في أخلاقناً .. في بُيوتنا .. في زَواجنا .. وفي سِلالنا حينُ نُغادر الحَياة !

مُشتاقون إليك ..
لكنّك أنتَ مُشتاق إلى أن نَغدو نُجوماً ؛ مِثل صَحْبك .. فَينتهي الزِّيغ فِينا !

أنت مُشتاقٌ إلى رَعشةِ الخَوف مِن الذَّنب فينا ..
أنتَ مُشتاق إلينا ؛ نَمشي إليكَ بلِا وَحل الذُّنوب !

أَتَقبل مِنّا وَعداً :
بأنَّ لا نُسرف في الاغتراب عَنك ، وأن نقرأ السّيرة .. عسَانا نفهم لماذا احتَفى بِك الكَون في مِعراجه ..

عَسانا نَرى .. لِماذا عَلوت حتّى بَلَغت صوت صَرير أقلامِ وَحي الإله ..

عسانا نَفهم .. مَعنى الثَّناء لكَ { وإنَّك لَعَلى خُلُقٍ عَظيم } !

يَبتَسِم لكِ النّبي ﷺ يوم تعثَرُ على هَدْيِه ..
لأنّك حِينها ؛ عثِرْتَ على الطَّريق إلى حَوضه ..
والطَّريق إلى الحَوض ؛ مُمْتَدّ إلى النَّعيم ! .. وهنيئاً لمن وصل ..

اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading