نحن طيور زينة
كتب : على امبابى
تربية طيور الزينة وكونها ممارسة أنانية حيث يقتنيهم الحمقى ليختصروا وجود كائن حي كقطعة من قطع الزينة !
.
كيف يمكن أن يصبح موجودا ما .. كائنا حيا .. محض مسحوق تجميل لبيتنا .. أو محض تسلية عابرة لطفل ما .. عبر مسخ كينونته من كونه طائر مجبول على الطيران وبناء الأعشاش والحرية وتحويله إلى قطعة من الاثاث تماثل في وجودها قنينة الورد أو لوحة جامدة معلقة على الحائط !
..
.
والحق أني كنت أشعر بألم حقيقي لتلك المعضلة التي أراها كل صباح .. معضلة الإختناق
.
.
لا أراه نوعا من الهشاشة أن أشعر بهذا الكم من الألم حين رؤيتي لعصفورة ميتة في قفصها .. فالأمر يتعداها نحو رؤية الموت الحبيس بعد الوجود الحبيس ..
وهذا العصفور الاخر الموجود بداخل القفص . ماذا سيكون مصيره ؟ هل سيموت داخل القفص أم يود ان ينطلق ويطير محلقا فى سماء الوجود لكى ينعم بحياته وهو طائر وليس بسجين . فتحت له القفص لكى يهرب او يبتعد عن ذلك السجن اللعين. لكنه للأسف لم يتحرك
.
– ربما لم يلحظه ..!!
فدفعته ناحيته ..
ولكنه تمسك في المعدن الرفيع للقفص من الداخل ..
– ربما هو يخافني ..!!
.
فتحت له كافة أبواب القفص .. فككت كل شيء .. حتى صار القفص أشبه بقطعة حديد مفرغة بالية مفتحة من كل ناحية ..
ولكنه لم يرحل !
لقد تمسك بسجنه ..
.
ابتعدت عن القفص .. ظننت أنه ربما يخافني .. ربما يشعر بوجودي فيخشى الرحيل ..
أنا أعرف ماذا يحدث عقلا ولكني لم أشهده بهذا التحقق قبلا !
– هو ببساطة لا يستطيع أن يفعلها ! ..
كائن تم تنشئته في بيئة تحرمه من أبجديات وجوده .. كيف يمكن أن أتوقع منه أن
يستعيدها بتلك السرعة ..؟!
…
لقد شاهدت هناك نتائج (الاساءات التي نتعرض لها في التنشئةوالتربية فينا نحن البشر) متجلية أمامي .. نعم هذا ما يحدث لنا أيضا !
ربما تضمر عضلات أجنحة الصغير لأنه لم يعتد الطيران ولم يتعلمه من والدين ..
.
ربما لهذا يحدث لنا ما يحدث ..
حين يتم دفن كثير من إمكانات وجودنا وحبس أجنحتنا .. حين يتم سرقة كثير من قابلياتنا بفعل الحرمان أو الإهمال أو الإساءة ..
.
أنا هنا لا أتحدث عن العصفورين مطلقا .. .. فتربية طيور الزينة جريمة شائعة أزاح شيوعها وطأة جُرمها ..
إنما فقط وددت لو خرجت من الموقف باسقاطاته النفسية على عوالمنا نحن البشر !
.
ما الذي يمكن أن يصير عليه طفل تمت تنشئته على السباب والانتقاص وتكسير المجاديف ..
كيف يمكن لأب أحمق أو أم مؤذية أن تصنع بطفل ما (حتى حين يصير بالغا ) حين يتم تحفيزه عبر المقارنات والوعيد والتهديد والتخويف أوالنهر أواللطم .. أو الاساءات الجسدية والنفسية ..
.
كيف يمكن للحب المشروط الذي تلقيناها أن يعطل إمكاناتنا في أن نمنح حبا غير مشروط يوما !
كيف يمكن لعلاقاتنا الأولى أن تمسخ قدرتنا (مؤقتاً) على إقامة علاقات صحية !
نعم .. كيف يمكن لشخص لم يعتد صغيرا أن يتلقى الحب بحق .. أن يتمكن من تلقيه كبيرا ناهيك عن أن يمنحه بشكل صحي ..
….
والأهم أني شاهدت قصة الخطوات الأولى في التعافي .. !
إننا في تعافينا من الاساءات نمسك بجدار القفص من الداخل .. نخشى الخروج بشدة ..
نعم .. تتحول الاساءة لأن تكون منطقة الراحة لنا !
= هل تعتقد أن الأمر غير منطقي ؟! ..كيف يمكن لنا ان نتشبث بالسجن الذي طالما سعينا للهرب منه !
نعم .. ربما كنا نتمنى جميعا الهرب من المؤذي ومن مساحة الإساءة المكانية .. نتمنى الفرار من البيت أو الهروب من الأذى ..
ولكن في الحقيقة جزء منا لم يزل يتمسك بأنماط العلاقة المسيئة لأننا ببساطة لم نتلق شيئا سواها !
كانت الاساءات والصدمات هي اللغة الوحيدة التي يتم التحدث بها حولنا ..
قد نرحل عن تلك الأشخاص الذين تسببوا فى الاساءة النفسية او البدنية لنا،
ولكننا لم نزل نحن من نصفع أنفسنا في داخلنا وإن لم نعد نتلقى الصفعات من الخارج !
لم نزل نحن نلوم ذواتنا ونمعن في الجلد الذاتي وإن توقفت آذاننا العضوية عن الاستماع لمثل هذا اللوم من الخارج !
لم نزل نحن من نخبر أنفسنا أننا (أقل مما ينبغي) و(أدنى من الجميع ).. حتى وإن توقفنا عن التعرض لمقارنات المسيئين القديمة !
.
لم نزل نتمسك بالخوف من الحميمية .. والهرب من الافصاح .. والشعور بأنه إذا اقترب منا أحدهم سيرفضنا ..
ونكمل في الاعتقاد بأننا غير مستحقين للمحبة !
.
بل لم نزل نعامل الله ككيان قاسي سيعاجلنا بعقوبة وحشية على خطأ ما ارتكبناه فيصيبنا القلق والترقب .. والرفض المضني لكل مساحة من بشريتنا القاصرة !
لم نزل لا نسمح لأنفسنا بمساحة من الخطأ .. ولم نزل نسعى نحو كمالية ومثالية لا يمكن تحقيقها واقعا نستخدمها صنما لنقيس عليه حياتنا فنمتليء بالخزي !
.
نعم .. نحن بالضبط مثل طائر الزينة نتمسك بجدران القفص رغم كل دفعات المحبين لنا بأن ارحلوا .. وصياحتهم (يمكنكم الطيران) .. (لديكم أجنحة) ..
ولكننا نتمسك بجدران القفص المتمثلة في التشكيك الذاتي .. ( لا لا يمكنني أن أفعلها .. لن استطيع الاعتناء بنفسي .. سأموت هناك في الخارج )
.
نتمسك بالخوف الذي يُرهقنا .. حين نظن أننا مجرد (طيور زينة) .. وأننا محض مشاريع تكميلية لحياة المسيء وقد فشلنا في جعله يفخر بنا..
نظن أنه ليس بإمكاننا أن نحصل على صوتنا الخاص ونصدح بتغريداتنا وبصمة زقزقتنا الخاصة على شجرة المجهول بالخارج !
نتخيل أنه ليس بإمكاننا أن نبني عشا .. ونرحم أنفسنا من صقيع الخارج ولسعة برودة الاساءة .
.
أحيانا نتمسك بالقفص ظنا أن ناره خير من جنة المجهول .. وأن (اللي تعرفه احسن من اللي ماتعرفوش )
فباب القفص يؤدي للمجهول .. والمسيء لكي يحتفظ بنا قام بحقننا بالخوف من المجهول !
…
والأهم .. الخوف من أنفسنا .. يكبلنا ..
ليس خوفا من قصورنا ونقصنا قدرما هو خوف من إمكاناتنا .. خوف من قدرتنا على الطيران والتحليق !
نعم ..
العجز أصبح منطقة الراحة بالنسبة لنا ..
لم نزل نتمسك أحيانا بجدران العجز ونلقي اللوم … لنبقى هناك في القفص المعنوي داخلتا نحيا على فتات الوجود ..
نهمس لأنفسنا (لا نستطيع أن نفعلها) .. رغم كل تلك الإمكانات فينا ؟!
لا.. ليست تلك هي الحقيقة .. بل هو ما أردنا تصديقه .. لأنه تم حقننا بالخوف من استخدام اجنحتنا .. ليبقينا المؤذي في أسره ! .. لنبقى متوققعين ومحكومين .
نعم .. كل ما نشعر به مفهوم ومقدر .. وكل خوفنا وتمسكنا منطقي ومبرر .. ومقبول ..
..
ولكننا نحتاج أن نرخي مخالبنا الرقيقة عن جدران القفص .. ونراهن على حقيقة وجودنا ..
لن يصبح الطير يوما من الزواحف مهما تم سجنه .. ومساحة الطيران الصغيرة جدا في القفص قد منعت أجنحته من الضمور ..
استطاع الطير أن يصنع تحليقه الخاص في مساحته الضيقة ..
(ألا تندهش أن كثير من المتعرضين للإساءات في الصغر يصيرون مبدعين ! أو كتاب أو فنانين! )
تلك هي مساحات التحليق الصغيرة التي احتفظنا به ..
ذلك ما لم يسع الأوغاد سرقته .. ولم تتمكن الاساءة من دفنه ..
..
ولكن ما يصيبنا بالعجز اليوم ليست الظروف ولا ضعف إمكاناتنا ..
بل الحقيقة أن مساحة ما من أيادينا الغضة تتمسك بشيء ما من القفص !
تتمسك بمعتقد ما .. بفكرة ما .. بوصمة عن أنفسنا .. بتشكيك داخلي فينا .. بقول ما قد ردده المؤذي على أسماعنا حتى تشربناه ..حتى صرنا نعرف أنفسنا من خلاله ..
ربما لم نعد نسمعها اليوم منه .. وربما مات .. وربما رحلنا عنه ..
وربما لم يزل يقولها ولكننا علمنا كم هو مريض ومثير للشفقة والتقزز معا ..
وربما تعلمنا في التعافي أنه لم يكن يحمل قدرة على المحبة أصلا .. فكانت الاساءة عن عجز لا عن بخل .. وعن جهل لا عن قصد ..
.
ولكننا لم نتوقف عن سماع تلك الأصوات داخل أدمغتنا تعمق مشاعر الخزي (أنا بلا قيمة ) (انا ماستاهلش ) (انا مخيب للأمال) (أنا فاشل ) (ليس لدي شيء لأقوله ) (كل الناس أفضل مني )
وتصديقنا لتلك المعتقدات داخلنا هو بالضبط ما نعنيه بتمسكنا بالقفص ..!
.
وقفزة الإيمان تتمثل في قرارنا بالمجازفة والتشكيك في تلك الاصوات المحبطة داخلنا ..
أن نقرر يوما أن نسير عكس هذا الصوت .. ونتوقف عن الاستماع لصوت الإنهزام الذاتي ..
ونصرخ رغم الخوف من المجهول (انا استحق ) (لا يوجد ما لا استحقه في هذه الحياة )
(يمكنني أن أفعلها ) ..
.
وأن نمد ايادينا نحو أولئك الذين قرروا مساعدتنا .. ومن ساروا قبلنا على طريق التعافي واستعادة الأجنحة ..
.
سنبني أعشاشنا .. وسنستعيد أصواتنا المسلوبة .. فقط إن قررنا المجازفة بترك التشبث مما تبقى من منطقة الراحة المؤلمة .. (لا المكانية وإنما النفسية) ..
.
أن نفلت التشبث النفسي بصوت الاساءة .. ونقرر أن نتجاوز بحق.
نتجاوز المؤذي بكل ما فيه .. والأهم ان نتجاوز صوته داخلنا وجراثيم العجز التي زرعها فينا !
.
أن نقفز القفزة الكبرى حقا .. وهي أن نحب أنفسنا ..
فإن أسوأ ما فعله المؤذي هو نزع قدرتنا على أن نحب ذواتنا ..
أن نربت على أنفسنا كل صباح قائلين ومتقبلين الشعور بالسخف المصاحب للأمر
(أنا محبوب ومستحق .. أنا محمي وآمن )
أنا بخير .. أنا على ما يرام تماما كما أنا ..
أنا جيد هكذا بحقيقتي ..
لا يوجد ما يدعوني للاستتار والتخفي ..
أنا مقبول ..
.
كل يوم يمر في التعافي رغم الخوف .. تستعيد أجنحتنا فيه سلامتها .. وقوتها ..
.
يقولون أنها تكون أقوى من الأجنحة التي لم تُسلَب يوما ..
الحقيقة أني لا أعرف .. هل هذا يحدث حقا وتصير أقوى مما كانت ستكون عليه دون التعرض لحبس الاساءة أم لا !
.
كل ما أعرفه حتى هذه اللحظة وشاهدته كثيرا أننا نستعيد قدرتنا على التحليق ونستعيد بصمة صوتنا .. ونجد شجرتنا الملائمة ونبني عشنا الموافق ..
.
نعم سنمر في مرحلة الألم من ارتطام أجنحتنا بتيارات الهواء العاصفة أحيانا وبالرياح العاتية كثيرا ..
ولكن في النسيم الاعتيادي سنجد أجنحتنا الضامرة تلك فعالة للغاية ..
وهي ستصمد في الأعاصير مع بعض الألم .. سيخفف الألم علينا تلك الصحبة والرفقة وأهل التفهم .. والمتعافين قبلنا .. والأصوات النورانية التي تُلهمنا ..
يقولون أن أجنحتنا ستكون يوما أشد .. ولن يتمكن أعتى إعصار من دفعنا ..
فلنؤمن وإن لم نتذوق بعد ..
..
ولكني أعرف أمرا يقينيا .. أنه في مساحة ما من التعافي لن تُقلقنا الأقفاص ثانية .. ولن نخاف الأسر .. ولن نرتجف أمام ظلمة حالكة .. فقد اختبرنا كل شيء فلم يعد في جعبة الحياة ما يتمكن من إرهابنا وإجبارنا على الصمت !
إننا ناجون ..
ربما لهذا سنجد لدينا قدرة غريبة على العودة للأقفاص المنكوبة والمفتوحة والصياح في أولئك المتشبثين أن أفلتوا .. يمكننا مساعدتكم .. فقط آمنوا ..
تماما كما صاح بنا أحد ما يوما !
ربما حينها سيكون لكل ذلك الألم معنى ما ..
ربما لن نتمنى أنه لم يحدث !
.
إلى الحبيسين في أنفسهم ..
ربما .. كل ما علينا الآن أن نستمر بالإفلات يوما وراء يوم .. ونضرب بأجنحتنا رغم العجز والضعف والخوف ..