
خص الله عز وجل العشر الأواخر من رمضان الكريم بفضل عظيم وذلك لوجود ليلة القدر في هذه العشر، فليلة القدر ليلة مميزة تتكرر كل عام هجري في العشر الأواخر من رمضان وذكر القرآن الكريم والسنة خصائصها وفضائلها الكبيرة، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}(القدر:1).
فما معنى ليلة القدر؟
• الليلة: هي الوقت من الغروب حتى طلوع الفجر.
• القدر:-
1) في الشرع هو ما يقدره الله من القضاء ويحكم به من الأمور على العباد.
2) قال العلماء: القدر بمعنى التشريف والتعظيم لهذه الليلة لنزول القرآن فيها فعندما نفخم شخص نقول فلان ذو قدر عظيم أو شأن كبير.
3) قيل القدر أيضاً بمعنى، التضييق في هذه الليلة وهو إخفائها عن العباد وعدم إعلانها بوقت محدد لقوله صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر في رمضان)(صحيح البخاري).
وفي رواية أخرى: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان)(صحيح البخاري).
4) وقالوا القدر بمعنى القضاء أي الفصل والحكم لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(الدخان:3).
والليلة المباركة في هذه الآية هي ليلة القدر، ومع عظم ليلة القدر، فلماذا أخفيت عن المسلمين ولم تحدد بليلة معلومة.
فما الحكمة من إخفائها؟
ربنا سبحانه وتعالى أرادت حكمته أن يخفي موعد ليلة القدر عن العباد ولم يجعلها معلومة كما أخفى عنهم كثير من الأمور كساعة الاستجابة يوم الجمعة، يوم القيامة، اسمه الأعظم، وذلك ليكون المسلم مجتهداً في عبادته دائماً في الليالي العشر جميعها حرصاً منه على إدراكها وخوفاً من أن تضيع منه، فيشغل وقته وعقله بالامتثال لأوامر الله، فالمطلوب منه هو العبادة طول شهر رمضان وخاصة في العشر الأواخر.
•وجاءت السنة النبوية لتعظيم ليلة القدر:-فقال صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (صحيح البخاري).
فكان صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة بأن الله عظم ليلة القدر فقال عز وجل في كتابه الكريم: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي أنها ليلة ذات شأن عظيم عند الله سبحانه وتعالى وبين أنها خير من ألف شهر فقال: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي أن العمل فيها يكون قدره عند الله خير من العمل في ألف شهر من عبادة وطاعة وأعمال صالحة(ما يعادل 84 سنة عبادة) ثم قال سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} فروى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل مع كوكبة أو جماعة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله فينزلون من غروب الشمس حتى طلوع الفجر وينزلون بكل أمر قضاه الله على العباد في تلك السنة من أرزاق وآجال وغير ذلك من حوادث البشر وكل أمر أبرمه الله عز وجل على عباده بدءاً من هذه الليلة حتى مثلها من العام المقبل، ثم قال تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} فهي ليلة سلام وأمان وخير ودرجات من الله على عباده المؤمنين أهل طاعته وتستمر تلك السلامة حتى طلوع الفجر وبين أن من علامتها هو طلوع الشمس صبيحتها أو ثاني يوم لا شعاع لها أو حمراء لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنها تطلع يومئذ لا شعاع لها).
واجتهد بعض العلماء في علاماتها أيضاً فقالوا: سكون الرياح وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر وغير ذلك- والله أعلم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر: أحيا ليله وأيقظ أهله وجدَّ وشدَّ المئزر، وكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، وعندما سألته السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: (يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول فيها قال: (قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني(أعلام الموقعين). وكان أكثر دعاء الرسول في رمضان وغيره: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(البقرة:201).
وكان صلوات الله عليه يوصي صحابته الكرام بإحياء العشر والاجتهاد فيها وقيامها بالدعاء والصلاة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى في هذه الليالي المباركة. وكان السلف يعظمون هذه العشر ويجتهدون فيها بأنواع الخير، فيجب على المسلمين في جميع أنحاء العالم أن يتأسوا بينهم وأصحابه الكرام والسلف الصالح الأخيار فيحيوا هذه الليالي بالصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء بما يشاءوا، الدعاء لأنفسهم بصلاح الحال والثبات على الدين وطلب المغفرة والرحمة من الله عز وجل، والدعاء للآباء أحياء وأموات {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، الدعاء للأبناء بالهداية وصلاح الحال والتوفيق {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
الدعاء للوطن: بأن يحفظ الله عز وجل ويجنب أوطاننا وسائر بلاد المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن ويرفع عنا البلاء والوباء برحمته سبحانه وتعالى.
ومما يجب التنبيه عليه ولفت النظر إليه أن بعض الناس يجتهدوا في رمضان ويتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى مما سلف من الذنوب والمعاصي ثم بعد انتهاء رمضان يعود لأعماله السيئة، ناسياً الحكمة من شهر رمضان العظيم، فالحكمة من الالتزام ثلاثون يوماً، في رمضان بالعبادة والطاعة والأعمال الصالحة هي المداومة عليها بعد رمضان والعزم بصدق وإخلاص على ترك المعاصي طوال أيام العام امتثالاً لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(عمران:133).