إيمان العادلى
الذي في الصورة أسفل المقال جراح أعصاب أسمه
“بول كالانيثي”شخص مرضه بسرطان الرئة في مراحله الاخيرة فقرر انه يكتب واحد من أكثر
الكتب مبيعآ اسمه” when breath become aire “يحكي فيه عن حياته ومعاناته مع السرطان.
هذا جزء من الكتاب
في تدريب الجراحة يرددون دائمًا أن الأيام طويلة
، فيما السنوات قِصار، وعندما كنت أتدرب في بورد جراحة الأعصاب، كنّا نبدأ دوامنا قبل
السادسة صباحًا ولا ينتهي اليوم إلا حين تنتهي من العمليات، فإذا كنتَ سريعًا فيها انتهى يومك أسرع
مما إذا كنت بطيئًا جراحيًا، لكن ذلك لا يعني أن تقدّس السرعة فلا تجري عملك بدقة. ”
“أتذكرُ كيف كان ممرضُ العمليات يتهكم عليَّ في
أوائل أيامي حين كنتُ أخيّط الجروح بدقة وبطء شديد، فكان يقولُ ” أ أنت جراحُ تجميلٍ أم جراحُ
اعصاب ؟ اكتشفتُ خطتك، أنت بطيءٌ في إغلاق الجرح حتى يلتئم النصف السفلي منه، ذلك الذي
خيطتّه للتو بينما تكمل خياطة الجزء العلوي”. قالها الممرض ذات مرةٍ كنايةً عن بطئي الشديد، أي
أن الوقت الطويل الذي أستغرقهُ لخياطة الجرح يبدو وكأنه أسبوعٌ كامل يكفي لتلتئم الجرح.”
الكل كان يحثني على السرعة في سَنَتي الجراحية الأولى حتى لا يستغرق المريض وقتًا طويلًا على
طاولة العمليات فكلما طالت العملية كلما زاد إجهاد المريض.
هناك وسيلتان لاختصار الوقت في العمليات فإما أن تكون كالسلحفاة أو كالأرنب كما في القصة
الشهيرة، الجراح الأرنب يتحرك بأقصى سرعة فلا تكاد تشاهد يده وهو يفتح جلد الرأس بسكينه كما
تفتح الستارة المنزلية ثم بلحظاتٍ تشاهد قطعة جمجمة الرأس على طاولة الممرضة بعد أن يتطاير
غبار العظام، لكن الفتحة التي قام بها الجراح الأرنب قد تحتاج لبعض التوسعة فيستغرق ذلك
وقتًا أطول.
أما الجرّاحُ السلحفاة فيستغرق وقته بالتخطيط
قبل فتح الرأس لكنه لا يحتاج لمراجعة ما قام بفعله، فيفوز الجراح الأرنب إذا لم يضع وقته في
كثرة المراجعات ويفوز الجراّح السلحفاة إن لم يضع وقته في طول التخطيط والتفكير.
الشيء الغريب في غرفة العمليات أنك سواء كنت بطيئًا أم خارق السرعة فإنك لا تحس بالوقت، فإذا
كان الملل كما يعرفه “هيديغر” الفيلسوف الإحساس بمرور الوقت، فما يجري في غرفة
العمليات هو العكس تماما. يقفُ الوقتُ تماماً في غرفة العمليات حتى ما إذا غرزت غرزتك الأخيرة يبدو وكأنما الوقت يبدأ من جديد، وكأنك تسمع صوتا يؤذن ببدء الوقت ثم تسأل نفسك الأسئلة الإعتيادية: متى تكون الحالة التالية؟ هل يكفي الوقت حتى أتناول طعام الغداء؟ متى سأصل المنزل الليلة؟
التدريب الجراحي مضنٍ جدًا منذ اليوم الأول ولم يكن شيء يخففه سوى قول من حولي أن الستَ سنوات هذه ستمر مر السحاب. كان ذلك واقعًا، فمضت خمس سنوات وبينما كنت في سَنَتي النهائية السادسة أحسست بأعراضٍ منها التعرق ليلًا بشدة وفقدان الوزن والحرارة والسعال وألمٌ في الظهر، فشخصوني سريعًا بسرطان الرئة المنتشر.
استطعت بصعوبة اجتياز السنة النهائية بينما كانوا يعالجونني بالكيماوي، ثم ما ان اجتزتها حتى رجع علي السرطان بطريقةٍ أشرس وحين رخصوني من المستشفى عدت الى منزلي متكأً على عصاة بالكاد أمشي ومن دون شعرٍ على رأسي. القيام للجلوس على الكرسي كان عملًا شاقًا بل حتى رفع كوب الماء. إذا كان الوقت يطول حين يتحرك الإنسان بسرعة فهل يقصر حين لا يقوى على الحركة؟
أيامي أصبحت قصيرةً جدًا فالذهاب لموعد الطبيب كان يدمر كل يومي بل حتى إذا زارني صديق. لأنني يجب أن أرتاح بعد عناء الموعد أو الزيارة. أصبحت أيامي متشابهة حتى أن الوقت لم يعد يعنيني واليوم لم يعد يعني لي شيئًا. ورغم كل هذا الحزن فقد حصل شيء جميلٌ جدا إذ ولدت ابنتي يومًا واحدًا بعد ترخيصي من المستشفى فأعادت تعريف وقتي ويومي.
أصبحت أعيد تعريف الأفعال والزمن.
هل أنا جراح أعصاب؟ أم كنت جراح أعصاب؟ أو هل كنت جراح أعصاب وسأكون بعدها جراح أعصاب حين أموت؟
كتب غراهام غرين أن الحياة هي أول عشرين سنة فقط والباقي من السنوات ما هو إلا انعكاس للعشرين سنة الأولى هل عشت حياتي؟
أم أنها توقفت قبل ميعاد نهايتها؟