سلسلة قصص الصحابة رضى الله عنهم
كتبت / ناهد عثمان
أبو بكر الصديق
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أول الخلفاء الراشدين، وخليفة رسول الله على الصلاة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فهو ثاني اثنين وهو خير من طلعت عليه الشمس بعد النبيين
بعض النفوس تكون في طبيعتها غليظة جافة، والبعض الآخر يكون في قلبه رحمة فطرية غير مصطنعة غير متكلفة، وكان أبو بكر من هذا النوع الأخير. لقد سمع أبو بكر وصايا حبيبه محمد ، فحفظها، وعقلها وعمل بها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : “لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ”. كانت رقة قلب أبي بكر الصديق تنعكس على حياته الشخصية، وتنعكس على علاقاته مع الناس,
وتستطيع بعد أن تدرك هذه الحقيقة، حقيقة أنه جُبِل على الرحمة والرقة والهدوء أن تفهم كثيرًا من أفعاله الخالدة . عن عائشة رضي الله عنها كما روى البخاري ومسلم، قالت: لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار، بكرةٍ وعشية، فلما ابتلي المسلمون (تقصد في فترة إيذاء المشركين للمسلمين في مكة) خرج أبو بكر مجاهدًا إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. سبحان الله، سيترك التجارة والمال، والوضع الاجتماعي المرموق، والبيت والأهل والبلد والكعبة،
بل أعظم من ذلك عنده سيترك رسول الله . هناك بعض الناس يحبون أن يعبدوا الله بالطريقة التي يرونها هم صحيحة، لكن أبو بكر كان يعبد الله بالطريقة التي يريدها رسول الله ، كان من الممكن أن يبقى أبو بكر في مكة، ويعبد الله في سرية، ويتاجر، ويحقق المال الذي يفيد الدعوة، لكن رسول الله أراد له الهجرة؛ لأنه ليست له حماية في مكة؛ لأن قبيلته ضعيفة، وهي قبيلة بني تيم، فترك كل شيء وهاجر، وإلى أرض بعيد مجهولة غير عربية، إلى الحبشة، لكنَّ الله أراد لأبي بكر غير ذلك، فأراد الله له البقاء في مكة فسخَّر له ابن الدغنة. قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ونلاحظ أنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في وصف رسول الله . ثم قال ابن الدغنة لأبي بكر: فأنا لك جار ارجع، واعبد ربك ببلدك. فرجع
وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشيًة في أشراف قريش فقال لهم: أتُخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة: مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. لأن قلوب النساء، والأبناء قلوب رقيقة، وأبو بكر رجل رقيق، يخرج كلامه من القلب، فيصل إلى القلوب الرقيقة المفتقرة للمعرفة، لكنهم لا يخشون على الرجال فقلوبهم كانت قاسية، عرفت الحق، واتبعت غيره. فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره
ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره (يعني لا يقرأ في الكعبة ولا في مجالس التقاء الناس ولا في السوق) ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين، وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. لا يريد أن يكتم أمر الدعوة، تتحرق نفسه شوقًا لإسماع غيره كلام الله ، وتشفق روحه على أولئك الذين سيذهبون إلى النار إذا ماتوا على كفرهم تمامًا كرسول الله الذي خاطبه ربه بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]. هكذا كان أبو بكر الصديق .
أبو بكر الصديق يبكي عند قراءة القرآن
كان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن, ولقد أفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم, فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدًا في فناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه. وهذا أمر طبيعي جدًّا، فإذا وصلت كلمات الله وكلمات الرسول خالصة نقية إلى أسماع الناس وجردوا قلوبهم من المصالح، فمن الطبيعي جدًّا أن يؤمنوا بها: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. وطبيعي جدًّا أن يقاتل الكافرون دون ذلك، وهم يعلمون
صوابها: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. قالوا: فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. هنا وُضع ابن الدغنة في موقف حرج فهو لا يريد أن يخسر كل أهل قريش، كما أنه ليس من أهل مكة الأصليين ويبدو أن الكفر الشديد والعناد الكبير سيجعل مكة تغير من قوانينها وأصولها فتكسر قواعد الحماية وتعطل قانون الإجارة، ولذا قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجلٍ عقدت له. هنا لا يتردد أبو بكر الصديق ، فالدعوة في مقدمة حياته على كل شيء حتى على حياته وروحه, فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله . كانت هذه طبيعة
أبي بكر، وكلنا يعلم أنه لما اشتد برسول الله وجعه، وذلك في مرض الموت، قيل في الصلاة, فقال : “مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ”. فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجلٌ رقيقٌ، إذا قرأ القرآن غلبه البكاء. فقال : “مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ”. وفعلاً صلى أبو بكر بالناس، وفعلاً بكى كعادته في قراءة القرآن تمامًا كما وصفته ابنته الفاضلة السيدة عائشة رضي الله عنها: رجلٌ رقيقٌ. موقف أبي بكر مع ربيعة الأسلمي رضي الله عنهما: هذه النفس الرقيقة، والقلب الخاشع، والروح الطاهرة النقية، والطبيعة الهينة اللينة تفسر لنا كثيرًا من مواقف أبى بكر العجيبة: أخرج أحمد بسند حسن عن ربيعة الأسلمي قال:
جرى بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي كلمة كرهتها وندم. ولنتأمل أن هذا الكلام يدور في المدينة، وأبو بكر هو المستشار الأول لرسول الله ، بمعنى أنه نائب الرئيس مباشرة، وربيعة الأسلمي هو خادم رسول الله ، فقال أبو بكر كلمة كرهها ربيعة، ويبدو أن الخطأ كان في جانب أبي بكر، وأدرك ذلك، ويحدث أن يخطئ البشر مع علو قدرهم، وسمو أخلاقهم، لكنه ثاب إلى رشده بسرعة عجيبة، وشعر بالندم كما قال ربيعة وهو يصف الموقف، لكن هل وقف الندم عند حد الشعور به والتألم الداخلي فقط؟ أبدًا، رقة نفس أبي بكر خرجت بهذا الندم إلى خير العمل وأسرع، وهو نائب الرئيس يقول لربيعة الخادم: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصًا. فقال ربيعة: قلت: لا أفعل.
أدب ربيعة أثر تربية رسول الله : صلى الله عليه وسلم
قال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ربيعة: فقلت: ما أنا بفاعل. فانطلق أبو بكر إلى النبي ، وانطلقت أتلوه، وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله وهو الذي قال لك ما قال. فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة في الإسلام، إياكم لا
يلتفت فيراكم تنصروني عليه، فيغضب، فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيهلك ربيعة. والله إنه لمجتمع عجيب، وأعجب منه الإسلام الذي غير في نفسيات القوم في سنوات معدودات حتى أصبحوا كالملائكة. قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا. وانطلق أبو بكر الصديق وتبعته وحدي حتى أتى رسول الله ، فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه فقال : “يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ وَالصِّدِّيقُ؟” فقلت: يا رسول الله كذا وكذا، فقال لي كلمة كرهتها, فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصًا. فأبيت. فقال رسول الله : “أَجَلْ، لا تَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قُلْ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ”. فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر. قال الحسن: فولى أبو بكر وهو يبكي. وكان من رقته وحنانه أنه يشفق على المستضعفين في مكة، يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام في مكة. بمعنى أنه إذا أسلم الرجل، أو المرأة اشتراه من صاحبه وأعتقه. فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال أبوه: أي بني أراك تعتق أناسًا ضعافًا، فلو أنك تعتق رجالاً جلدًا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟ وقد كان أبو بكر الصديق في حاجة إلى ذلك؛ لأن قبيلته قبيلة تيم كانت ضعيفة وصغيرة. فقال أبو بكر الصديق: أي أبت أنا أريد ما عند الله. فنزل فيه قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5-7]. ونزل في أبي بكر كذلك قول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17-21]. وتأمل معي
حينما يَعِدُ الله سبحانه وتعالى بنفسه عبده بأنه سيرضى، أيُّ ثمن دُفع وأيُّ سلعة تُشْترى؟ ما أزهد الثمن المدفوع، ولو كان الدنيا بأسرها، وما أعظم السلعة المشتراة لأنها الجنة. لما وقع حادث الإفك وتكلم الناس في حق أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها ابنة أبي بكر الصديق ، كان ممن تكلم في حقها مسطح بن أثاثة ، وهو من المهاجرين، وهو ابن خالة الصديق ، فحلف الصديق أن لا ينفع مسطح بنافعة أبدًا. وهذا رد فعل تجاه من طعن في عرض ابنته، فمسطح لم يتكلم في خطأ عابر لأم المؤمنين السيدة عائشة، بل يطعن في عرضها وشرفها وهذه جريمة شنعاء وذنب عظيم. فلما نزلت البراءة وأقيم الحد على المتكلمين نزل قول الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]. لا يأتل: أي لا يحلف. أولوا الفضل: وهو وصف خاص بالصديق ، وللعلماء تعليقات كثيرة على هذه الشهادة من رب العالمين على أبي بكر الصديق أنه من أولي الفضل على إطلاقها، فهي تعني كل
أنواع الفضل. فماذا كان رد فعل أبي بكر الصديق ؟ قال أبو بكر الصديق: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا. ثم أرجع إلى مسطح ما كان يصله من نفقة وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا. كل هذا وهو ليس بذنب، بل قطع فضلاً ولم يقطع حقًّا لمسطح. أما نحن فللأسف الشديد، كم مرة نسمع المغفرة، ونحن على ذنب كبير حقيقي، ونسمع: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فنقول: إن شاء الله، ونُسَوف في التوبة، كم مرة سمعناها، ونحن على ذنوبنا؟ هذا هو الفرق بين الصديق، السبّاق إلى التوبة من ترك فضل وبين المُسَوّفين في التوبة، فيجب علينا أن نتوب في هذه اللحظة؛ لكي نكون قد تعلمنا حقًّا من أبي بكر الصديق وأرضاه. روى مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني أن أبا سفيان أتى عَلى سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي فأخبره، فقال: “يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ”. فأتاهم فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، غفر الله لك يا أخانا. الصديق وأسرى بدر : ولما استشاره رسول الله في أمر الأسرى في موقعة بدر، ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا أموالهم، وطردوهم من ديارهم، وحرصوا على حربهم، وكادوا يقتلونهم في بدر لولا أن الله مَنَّ على المؤمنين بالنصر؟ لو نظرنا إلى أبي بكر لوجدناه وكأنه يتحدث عن أصحابه لا يتحدث عن الأسرى، لقد قال: يا رسول الله،
هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ فيهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا. أما عمر بن الخطاب، فقد كان جوابه مختلفًا، قال رسول الله : “مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟”, فيرد عمر بن الخطاب فيقول: ولنتأمل كلام عمر بن الخطاب وهو ملهم، ومحدث ومسدد الرأي، وفيه شدة واضحة على الكفر وأهله، وهي شدة محمودة في زمان الحرب. بل إنَّ رأيه هو ذلك الرأي الذي يريده الله ووافق فيه عمر ما أراد الله : يقول عمر: والله ما أرى ما رأى أبو بكر الصديق، ولكن أرى أن تمكنني من فلان -أحد أقرباء سيدنا عمر بن الخطاب- فأضرب عنقه، وتمكن عليًّا من عقيل بن أبي طالب، فيضرب عنقه،
وتمكن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء أئمتهم وقادتهم. فيقول عمر بن الخطاب: فهوى رسول الله ما قال أبو بكر الصديق، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء. نلاحظ التقارب الشديد في الطباع بين الرسول وبين أبي بكر، وإن كان الصواب في الموقف كان مع عمر. يقول عمر: فلما كان الغد غدوت إلى النبي وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. لله درك يا ابن الخطاب، عملاق آخر صنعه الإسلام، رقة متناهية مختفية خلف الشدة الظاهرة، وقلب يذوب ذوبانًا في حب رسول الله وتواضع جم وأدب عظيم، فقال رسول الله : “لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابَهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ”. ولماذا العذاب؟ وكأن بعض الصحابة أرادوا الدنيا بهذا الرأي، وينزل قول الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68]. الكتاب الذي سبق هو قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4].
ويلخص هذا كله رسول الله بتعليق جامع بعد قضية أسرى بدر، واختلاف العملاقين الكبيرين في الرأي فيقول : “إِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]. وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة: 118]. وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ قَالَ: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وَمَثَلُكَ مِثَلُ مُوسَى قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88]”. ولا أحد يُخَطِّئ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعيسى عليه السلام في رحمتهما مع المذنبين، ولا أحد يخطئ نوح وموسى عليهما السلام في شدتهما في الحق. إذن هذه المواقف وكثير غيرها توضح مدى الطبيعة الرقيقة الحانية التي جُبِل عليها أبو بكر الصديق . هذه الرقة الشديدة والنفس الخاشعة، والطباع اللينة أورثت في قلب الصديق تواضعًا عظيمًا فاق كل تواضع. تعالوا نرقبه بإمعان وهو يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، موقف عجيب، أسامة بن زيد دون الثامنة عشر من عمره، وهو جندي من جنود أبي بكر الصديق ، وأبو بكر الصديق هو زعيم الدولة الأول، خليفة المسلمين يتجاوز في العمر الستين سنة، ومع ذلك يودع بنفسه جيش أسامة، وهو ماش على قدميه، وأسامة بن زيد يركب جواده، ولك أن تتخيل الموقف، أسامة على الجواد، وأبو بكر يسير بجواره على الأرض، قال أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: والله لستَ بنازل، ولستُ براكب، وما عليَّ أن أُغَبّر قدمي في سبيل الله ساعة. يا الله، يا لها من تربية راقية تربية على منهج النبوة،
يربي نفسه على التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بالنفس، ويربي الجنود على الطاعة لهذا الأمير الصغير، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه وعلى إخلاص النية ووضوح الرؤية، ثم هو يريد عمر بن الخطاب معه في المدينة، وعمر بن الخطاب في جيش أسامة، ومع أن أبا بكر الصديق هو القائد الأعلى لكل الخلافة إلا إنه يستأذن أسامة بن زيد قائلاً: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل. أسامة بن زيد 18 سنة، أي من عمر شاب في الثانوية العامة اليوم, وهو لا يتصنع التواضع، ولكن هذا جزء لا يتجزأ من شخصيته وعن أصحابه، وصلِّ اللهم وبارك على الذي علم هؤلاء مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أول الخلفاء الراشدين، وخليفة رسول الله على الصلاة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فهو ثاني اثنين وهو خير من طلعت عليه الشمس بعد النبيين
كان الصديق من أروع الأمثلة الإسلامية على صفة إنكار الذات؛ أنكر الصديق ذاته في حق الله ، فلا يأمره الله بشيء ولا ينهى عن شيء إلا امتثل، واستجاب مهما كانت التضحيات.. الصديق أنكر ذاته في حق رسول الله ، ومواقفه في إنكار ذاته مع الرسول لا تحصى، فهو لم يكن يرى نفسه مطلقًا بجوار رسول الله .. والصديق قد أنكر ذاته مع المؤمنين، حتى من أخطأ في حقه منهم، بل حتى من تجاوز خطؤه الحدود المألوفة المعروفة بين الناس. إنكـار الذات معناه: أن الإنسان لا يرى نفسه مطلقًا، ليس لنفسه حـظٌّ في حياته، وإن كان حلالاً، وإن كان مقبولاً في عرف الناس، وفي الشرع،
لكنه دائمًا يؤخر نفسه، ويقدم غيره. إنكار الذات معناه: أن تتخلص النفس من حظ النفس، فلا تهتم بثنـاءٍ، ولا مدح، ولا تنتظر أن يشار إليها في قول أو فعل. إنكار الذات معناه: أن تؤخر حاجات النفس الضرورية، وتقدم حاجات الآخـرين، حتى وإن لم تربطك بهم صلات، أو علاقات رحم، أو مصلحة، أو مـال. إنكـار الذات هو أعلى درجات السمو في النفس البشرية، تقترب فيه النفس من الملائكة، بل لعلها تفوق الملائكة، لأن الملائكة جبلت على الطـاعة، أما الإنسان فهو مخير بين الخير، والشر. ولعل أكثر مثل يوضح لنا إنكار الذات نجده في الأم، في تعاملها مع أولادها، وليس معنى إنكار الذات، أن الإنسان لا قيمة له، بل على العكس، فالمنكرون لذواتهم هم أعلى الناس قيمةً، وأرفعهم قدرًا، لكنهم لا ينتظرون من الناس مقابلاً لذلك. الأم مثلاً لا ترى نفسها أمام أولادها، قد تتعب، قد تـسـهر، قد تنفق، قد تـسـاعد، تفعل أي شيء، أي شيء، وهي سعيدة بذلك؛ لأنها
أسعدت أولادها، ولا ترى ما أصابها من تعب أو سهر أو مرض، هذه هي الأم. بيد أن إنكار الذات عند المؤمن أعلى من ذلك، أعلى من ارتباط الأم بوليدها، لمـاذا؟ ذلك لأن الأم ترتبط بوليدها برابطة فطرية، طبيعية، كما أنها لا تنكر ذاتها إلا مع أطفالها، فقد لا تفعل ذلك مع جيرانها، أو معارفها، أو أقاربها، أو حتى مع زوجها، أمـا المؤمن الذي يفعل ذلك، فإنه ينكر ذاته في حياته كلها، مع القريب والبعيد، مع الأهل، وغيرهم، مع الأصحاب، وغير الأصحاب، بل قد يفعل ذلك مع من أخـطـأ في حقه وآذاه، صفة عجيبة حقًّا، صعبة، عالية جدًّا، في أعلى درجات سلم الإيمـان.
أين حظ النفس عند الصديق؟
ولقد كان الصديق من أروع الأمثلة الإسلامية على صفة إنكار الذات، أنكر الصديق ذاته في حق الله ، فلا يأمره الله بشيء، ولا ينهى عن شيء، إلا امتثل، واستجاب، مهما كانت التضحيات، الصديق أنكر ذاته في حق رسول الله ، ومواقفه في إنكار ذاته مع الرسول لا تحصى، فهو لم يكن يرى نفسه مطلقًا بجوار رسول الله ، والصديق قد أنكر ذاته مع المؤمنين، حتى من أخطأ في حقه منهم، بل حتى من تجاوز خطؤه الحدود المألوفة، المعروفة بين الناس ابحث في حياة الصديق، ونَقّب، أين حظ النفس عند الصديق؟
لا تجد، أين
إشباع الرغبات الطبيعية عند البشر من حبٍّ للمال، وحبٍّ للجاه، والسلطان، وحب للسعادة، وحب الظهور، بل حب الحـيـاة؟ أين ذلك عند الصديق؟ لن تجده أبدًا، مثال عجيب من البشر، وآية من آيات الرحمن في خلقه، ولعلنا نكتفي هنا بالمرور السريع على مثال من إنكار الصديق لذاته، ولعلنا نتوقف عند المـال مثلاً. أين حظ الصديق من ماله؟ جبل الصديق على حب العطاء، حتى لتشعر وأنت تقرأ سيرته أنه يستمتع بالعطاء ويبحث عنه، وهذا شيء عجيب، فالإنسان بصفة عامة جبل على حب المال حبًّا شديدًا، قال : {وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]. وقال: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]. أي شديد البخل وشديد المنع، الصديق لم يكن كذلك، وسبحان الذي سَوّاه على هذه الصورة، فالصديق كان يحب الإنفاق حتى في الجاهلية قبل أن يسلم. عمله في ضمان الديات: كان قبل إسلامه مسئولاً عن ضمان الديات والمغارم في مكة، فإذا سأل قريشًا ضمانًا قبلوه، وإذا سألهم غيره خذلوه، وهذا عمل خطير، فقد يتحمل الصديق دية رجل، ثم لا يوفي أهله، فيكون على الصديق قضاؤها،
أي أنه عمل فيه خسارة، ويحتاج إلى كثير من المال، وإلى نفس راغبة في قضاء حوائج الناس، وتحمل مغارمهم، إذا كان هذا هو الصديق قبل إسلامه، فما بالكم بعد أن أسلم؟ ما بالكم كيف يكون حاله إذا سمع من رسول الله حديثًا قدسيًّا ينقله عن رب العزة يقول فيه الله تعالى: “انْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ؟”. وذلك كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، بل كيف يكون حاله وقد سمع رسول الله يقسم أن مال العبد لا ينقص من الصدقة؟ الصديق لا يحتاج إلى قسم الرسول ليصدقه، الصديق كان واضعًا نصب عينيه حقيقة ما اختفت لحظة عن بصره وعقله وقلبه، تلك الحقيقة هي: إن كان قال فقد صدق. هكذا، مجرد القول يعني عنده التصديق الكامل الذي لا شك فيه، فما بالكم إذا سمعه يقسم؟
الصديق ينفق ماله كله في سبيل الله :
هذه الطبيعة الفطرية، وهذا اليقين في كلام رسول الله يفسر لنا كثيرًا من مواقف الصديق ، فالصديق شاهد مع بدايات الدعوة في أرض مكة، التعذيب الشديد والتنكيل الأليم بكل من آمن من العبيد، والعبيد في ذلك الزمان يباعون ويشترون، وليس لهم أدنى حق من الحقوق، تألمت نفس الصديق الرقيقة لهذه الوحشية المفرطة من الكفار مكة، وسارع بماله ينقذ هذا، ويفدي ذاك، يشتري العبد، ثم يعتقه لوجه الله، هكذا {لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان :9]. مر ببلالٍ ، وهو يعذب على صخور مكة الملتهبة، وعلى صدره الأحجار العظيمة، فساوم عليه سيده أمية بن خلف عليه لعنة الله، وعرض عليه أن يشتريه، أو يبادله بعبد آخر أجلد منه، وأقوى، وليس بمسلم، وفي رواية أنه اشتراه بسبع أوقيات من الذهب، ودار حوار رائع بين الصديق ، وبين أمية بن خلف عليه لعنة الله، قال أمية يريد أن يبث الحسرة في قلب الصديق: لو عرضت عليَّ أوقية واحدة من الذهب لبعته لك.
قال الصديق العظيم في هدوء: لو طلبت مائة أوقية من الذهب لأشتريه. سبحان الله، فارتدت الحسرة في قلب أمية بن خلف، أمية بن خلف المشرك لا يدرك قيمة بلال، بعد أن أسلم، لكن الصديق يدرك ذلك، فهذا العبد الأسود القليل في نظر المشركين، وأهل الدنيا، هذا العبد ذاته ثقيل في ميزان الله ، بما يحمل في قلبه من إيمان وتوحيد وإسلام، هذه المعاني الرقيقة السامية لا يفهمها أهل المادة، لكن يفهمها الصديق بعمق ويتعامل على أساسها. اشترى الصديق أم عبيس رضي الله عنها وأعتقها، واشترى زنيرة رضي الله عنها وأعتقها، واشترى النهدية وابنتها رضي الله عنهما وأعتقهما، ولهما قصة لطيفة رواها ابن إسحاق في سيرته، كانت النهدية وابنتها ملكًا لامرأة من بني عبد الدار، مر بهما الصديق ، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا. قال أبو بكر الصديق : حلّ يا أم فلان. أي تحللي من يمينك، فقالت: حل أنت، أفسدتها فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت بكذا وكذا، قال الصديق : قد أخذتهما، وهما حرتان، ارجعا إليها طحينها. هنا نجد ردًّا لطيفًا عجيبًا من الجارتين المسلمتين اللتين تخلقتا بخلق الإسلام الرفيع قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر، ثم نرده إليها؟ سبحان الله، بعد النجاة من هذا الظلم الشديد، والسخرة المهينة ما زالتا تحرصان على مال سيدتهما، قال الصديق : ذلك إن شئتما. ومر الصديق بجارية بني مؤمل (حي من بني عدي) وكانت مسلمة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله آنذاك مشركًا، وكان شديد الغلظة على المسلمين، وكان يضربها ضربًا مؤلمًا لساعات طوال، ثم يتركها
ويقول: إني لم أتركك إلا عن ملالة. مر بها الصديق ، فابتاعها ثم أعتقها لوجه الله. ودعا الصديق غلامه عامر بن فهيرة إلى الإسلام، فلما أسلم أعتقه أيضًا لوجه الله. وكما رأينا فإن الصديق لم يكن يفرق بين عبد وأمة، أو قوي وضعيف، هذا الأمر لفت نظر أبيه أبي قحافة فقال له: يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلدًا، يمنعونك، ويقومون دونك؟ ولا ننسى أن الصديق من بطن ضعيف من بطون قريش، فقال الصديق في إيمان عميق: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله . فأنزل الله في حقه قرآن كريمًا، قال : {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل17: 21]. قال ابن الجوزي: أجمع العلماء أنها نزلت في أبي بكر الصديق . وتخيل معي أن الله ينزل قرآنًا يشهد فيه للصديق بالتقوى، بل بأنه الأتقى، ويشهد له بإخلاص النية، فهو يريد أن يتزكى، ولا يريد جزاء من أحد، وإنما يريد وجه الله فقط، ثم انظر الوعد الرباني الجليل العظيم، ولسوف يرضى، ومهما تخيلت من ثواب وجزاء ونعيم، فلا يمكن أن تتخيل ما أعده الله لمن وعد بإرضائه {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21]. روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله : “أَمَا إِنَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي”. الصديق كان يملك عند إسلامه أربعين ألف درهم، أنفقها جميعًا في سبيل الله ، أنفق منها خمسة وثلاثين ألف درهم في مكة، حتى لم يبق إلا خمسة آلاف درهم، أخذها معه في الهجرة أنفقها على رسول الله وعلى المؤمنين، حتى فني ماله، أو قل: بقي ماله. وليس: فني ماله. فالذي يبقى هو الذي يُنفق في سبيل الله، والذي يفنى هو الذي يُمْسك في يد العبد، ولكن تخيل قدر هذا الإنفاق لا بد أن نعرف قيمة هذه الأربعين ألف درهم في زماننا، لا تنسى أننا نتحدث عن زمن مر عليه أكثر من ألف وأربعمائة عام، إذا كانت قيمة الجنيه المصري مثلاً قد تغيرت كثيرًا في غضون عشرة أو عشرين أو ثلاثين سنة، فما بالك بألف وأربعمائة من السنين تعالوا نقوم بحسبة لطيفة، ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله أنه اشترى شاة بدرهم، إذن الصديق كان يملك ما يساوي أربعين ألف شاة، ونحن اليوم نشتري الشاة بمتوسط 800 جنيه مصري مثلاً، إذن الصديق كان يملك ما يساوي 32 مليونًا من الجنيهات المصرية، يعني أكثر من 6 مليون دولار، وطبعًا كان الدرهم له قيمته، ولم يكن هناك تضخم، ولا أزمة اقتصادية، ولا تعويم للدرهم. سبحان الله أنفق كل هذه الثروة الطائلة في سبيل الله،
وفوق ذلك كان تاجرًا لم يتوقف عن تجارته، فهناك إنفاق فوق كل هذه الأموال المدخرة، وفوق ذلك هناك إنفاقه في المدينة المنورة من تجارته هناك، فقد أنفق كل أمواله في فترة مكة كما ذكرنا، لكن عاود الكسب من جديد، فمثلاً أنفق في تبوك أربعة آلاف درهم (حوالي مليون ونصف جنيه مصري) كانت هي كل ما يملك من مال، ولم يترك لأهله إلا كما قال: تركت لهم الله ورسوله. هذا الإنفاق العجيب، والنفس المعطاءة هو الذي دفع رسول الله أن يقول فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة وأرضاه: “مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنَي مَالُ أَبِي بَكْرٍ”. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهَ. وفي رواية الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : “مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَأْنَاهُ، مَا خَلا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.