العاصمة

حياتناإيمان العادلى

0
كلنا بدأنا حياتنا في غرفة صغيرة دافئة اسمها الرحم، وفي هذه الغرفة كنا ننام في أمان وتركنا الطبيعة تتولى أمرنا وتقوم على خدمتنا ، لا قلق ، لا خوف ، لا شك ، ولماذا القلق وكل شئ يصلنا حتى أمعائنا ، والأكسجين يصلنا جاهزا دون أن نحرك رئاتنا ، الفضلات يغسلها دم الأم ، ثم فجأة تطردنا قوة مجهولة وتقذف بنا من الدفء والأمان إلى دنيا واسعة مجهولة.
وشيئا فشيئا من الطفولة إلى الصبا إلى الشباب يتم انتقاله إلى البيت الواسع الكبير الذي اسمه المجتمع ، والإنسان الطبيعي الذي انتقل في كل أدوارحياته انتقالات طبيعية وتكاملت شخصيته من مرحلة إلى مرحلة ينزل إلى الحياة كما ينزل في رحلة خلوية جميلة مليئة بالمفاجآت ، ويغامر في هذه الحياة بملء نفسه دون أن يخشى أن يخسر نفسه، وقد امتلأ إحساسا بأنه حر وأنه قادر ومسئول، وأنه يستطيع أن يفعل شيئا، وأن فاعليته يمكن أن تمتد إلى عائلته وإلى جيرانه وإلى بلده وإلى المجتمع والدنيا والإنسانية والتاريخ.
ولكن الأمر يختلف كثيرا إذا كان هذا الإنسان قد تلقى صدمة عنيفة قطعت الطريق على تطوره، وخنقت روحه وهي تأخذ أول أنفاسها. وهناك ألف نوع ونوع من الصدمة منها: المرض الحاد الذي يلم بالطفل وهو في باكورة حياته فيقعده، الحياة في بيت لا يكف فيه الشقاق والخناق بين الأم والأب، شعور الابن أنه الطفل المكروه وأن العائلة تفضل عليه أخاه، الشعور بالنقص نتيجة العاهة أو اللون أو الانتماء لأقلية منبوذة، الفشل في المدرسة والإفلاس في العمل والخيبة في الحب والشعور بالذنب.
ونتيجة هذه الصدمات أن يتوقف التطور الطبيعي ويتوقف نمو الشخصية، وبدلا من الروح التي كانت في طريقها إلى الدنيا والتعامل مع الحياة، تعود هذه الروح فتنضم على نفسها، تنكمش وتلتصق كما يلتصق الجنين بالرحم، والنفسانيون يسمون هذه الحالة بالنكوص، لأن الإنسان ينكص فيها و يعود حالته الأولى حينما كان ملتصقا برحم أمه و يعيش طفلا متواكلا لا يشارك في الحياة..
و هو يحاول أن يجد بديلا عن الأمان الذي افتقده في أشياء كثيرة في الطعام ، في الجنس.. و هو يأكل بشراهة و يبجث عن الإشباع في الجنس و لا إشباع أبداً.. و يطلق أحكاما نهائية على كل شيء.. فالناس أندال.. و الفن الحديث حثالة و الجيل الجديد زفت و النساء خائنات.. و السياسة نصب.. و الأطباء لصوص.. و العالم يسير إلى الخراب..
و كل هذه ليست أحكاما منطقية نتيجة لتفكير و لكنها ذرائع و مبررات يتذرع بها ليبرر انكماشه و انطواءه..
” إنها ظله التعس و قد سقط على الدنيا.. ظل ثورته على نفسه و قد تحول إلى ثورة على الناس.. و كراهيته لنفسه و قد تحولت إلى كراهية للناس..
وعلاج المصدوم لا يكون بإعادة الصلة بينه وبين الناس، ولكن بإعادة الصلة بينه وبين نفسه، و بتحليل تاريخه إلى عناصره الأولية التي باعدت بينه و بين نفسه و مزقت وجدانه إلى أشلاء داميه حائرة بين الحب و البغض
فالعلاج هو الإفشاء، والمفاتحة، والمكاشفة، والمناجاة الحميمة بين يدي صديق، أو حبيب، وحينما لا نجد الحب ولا نجد الصداقة، فمعناها أننا لم نجد القلوب الكبيرة وهي نادرة مثل كل شئ نادر، بعكس القلوب الصغيرة فهي موجودة بكثرة النمل
من كتاب / الأحــــلام
د مصطفى محمود

اترك رد

آخر الأخبار