المخرجة كارول منصور : فيلم حكاية عايدة يروي قصة كل لاجئ فلسطيني حرم من أرضه
إيمى عاطف
في حياة المواطن الفلسطيني، تتداخل المسائل الذاتية مع
المسائل العامة بل تنهار الحدود الفاصلة بينهما؛ لأن كل قصة
بسيطة لا تعكس فقط معاناة فرد وإنما ترسم جزءا من صورة
كاملة لحكاية شعب يعاني منذ عقود، وهذا تماما ما تعبر عنه
حكاية عايدة، المرأة المُسنة التي أصيبت بألزهايمر ونسيت كل
شيء إلا يافا، وظلت متشبثة بذكرى المكان الذي أُخرجت منه
وهي شابة عام 1948 ولم تعد إليه قط فتحول الأمر إلى حلم بعيد المنال، ولكنه تحقق بعد رحيلها.
ويوثق فيلم المخرجة كارول منصور Aida Returns تجربتها
الشخصية في العودة، ويروي رحلتها السرية لدفن رُفات والدتها
عايدة في فلسطين، على الرغم من القيود التي فرضها مشروع
الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، وبعد هذه الرحلة يقدم الفيلم
تأملات شخصية حول ممارسة العودة، وينسج معًا أفكارًا حول
الوطن، والتجربة الفلسطينية والذاكرة والواقع المستمر للحياة
الفلسطينية في يافا تحت الاحتلال اليوم، والفيلم من إنتاج منى الخالدي.
وفي حوار مع جريدة “الشروق” رَوت المخرجة كارول منصور
الكثير عن تفاصيل هذا العمل، وكيف تطور من مجرد تسجيل
للحظات الأم وتحقيق أمنيتها إلى فيلم وثائقي تتقاطع فيه
الذاتية الشديدة مع المحنة العامة التي يعيشها الإنسان الفلسطيني.
وكانت تجربة الفرار من يافا قاسية على عايدة عبود الشابة التي
كانت في العشرين من عمرها، وظل الألم على وطنها ملموسًا،
فبعد فرارها وعائلتها من فلسطين عام 1948 لجأت أسرتها إلى
لبنان قبل أن تستقر في النهاية في مدينة مونتريال خلال خضم
الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، وظل حلم عايدة بالعودة إلى
جذورها دون أن يتحقق سنوات؛ لذلك كان قرارها ووصيتها إلى
ابنتها أن تُحرق وتُدفن رُفات جثمانها في يافا.
ويأخذ الفيلم، الجمهور في رحلة عبر ذكريات عايدة العابرة لعام
1948 كان ذلك عام النكبة عندما تم تهجير حوالي 750 ألف
فلسطيني من منازلهم، ونرى كيف كانت الحياة والشوارع
والملابس ونمط المعيشة في المدينة التي أصبحت لصيقة الآن
بتل أبيب المدينة الإسرائيلية الأشهر.
وفي وسط حديثها تتذكر عايدة أنه كان لهم أصدقاء يهود من
المواطنين الفلسطينيين الأصليين وليس المهاجرين من أوروبا،
وشعروا بالحزن على مغادرتهم يافا، وكانوا يقولون لهم: “لا
تغادروا ما حدا راح يأذيكم”، لكن ما حدث عكس ذلك كانت
النكبة قاسية ومدمرة وبها الكثير من المآسي وضحايا وحشية الاحتلال وجنوده.
وقالت كارول لـ”الشروق”: “لم يكن هناك فكرة فيلم في البداية،
جميع المقاطع المصورة كانت بالهاتف بهدف التسجيل للذاكرة،
وبدأت في تصوير والدتي عام 2007 حينها كنت أقوم بتصوير
أفراد العائلة الذين تركوا فلسطين وكنت أصورهم كأرشيف
للذاكرة؛ لعل يوما ما أصنع بهذا الأرشيف شيئا”.
وتابعت: “وفي عام 2012، عندما أصيبت والدتي بألزهايمر
وحتى وفاتها عام 2015، كنت أسافر لها خصيصا من بيروت إلى
مونتريال لكي أصور معها ونضحك ونتحدث وأمسك يدها
ونتبادل الحديث وكانت متمسكة بذكرى يافا حتى آخر وقت”.
وأضافت: “أمي كانت تحكي كثير جدا جدا عن بيتها في يافا
وحياتها قبل 1948 والبحر في يافا؛ لذلك اختارت هي وأبي
أنهم يُحرقوا بعد وفاتهم ويدفنوا في مدنهم الفلسطينية، وأنا
منذ طفولتي كنت أسمع أمي تقول أريد أن أموت في يافا، أما
أبي من حيفا وهذه أمنيتها طول عمرها وكما حققتها، سوف
أحقق أمنية أبي أيضا الذي توفي وقت انتشار فيروس كورونا،
وحاليا احتفظ برُفاته معي في بيروت وانتظر عودة شخص إلى
حيفا لكي أرسل معه رُفات أبي كي نتمكن من دفنها هناك كما تمنى”.
وبعد مرور عام تقريبًا على قيام كارول باصطحاب رماد والدتها
من مونتريال إلى بيروت، التقت بصديقة قديمة وهي المصورة
الفوتوغرافية تانيا حبجوقة، والمصور الصحفي بيتر فان أغتميل.
ويضم الفيلم أكثر من مرحلة، الأولى وهي حديث الأم في
مراحل عمرية مختلفة وحتى لحظاتها الأخيرة وهي تتحدث
بحب شديد عن يافا، ثم توجه كلمات الحب والمودة إلى ابنتها،
وبالتوازي يظهر الفيلم كارول وهي توزع رُفات والدتها في
كيسين محكمين الإغلاق، ثم تنكشف خطوط الرحلة للمُشاهد،
ونجد معاملة خاصة لهذه الرفات، حيث تتحدث تانيا إلى الرفاة
بحب شديد، وتقول: “أهلا وسهلا فيكي عايدة وصلتي فلسطين”.
وتحكي كارول: “هذه اللحظة التي تحدثت فيها تانيا إلى رُفاة
والدتي عايدة هي التي خرجت منها فكرة الفيلم، منى خالدي
منتجة الفيلم، وهي باحثة ونعمل سويا، قالت لي كارول هذه
ليست قصتك بمفردك إنها قصة جماعية ويجب أن نصنع فيلماً عنها”.
وأكملت: “لقد صورت كل شيء بهاتفي، كان الأمر شخصيًا للغاية،
كان الأمر موجهًا لي وللعائلة؛ لذلك كان طبيعيا وحميميا للغاية
وعفويا؛ لذلك لم أستعن بأي مشاهد تمثيلية أو إعادة تجسيد لأي
لحظة، كل شيء كان يتسم بالعفوية”0
وعبر تطبيق facetime، شاركت كارول الصديقات رحلة البحث
عن منزل عايدة في يافا، وفقا للوصف الذي كانت تقوله عايدة
عن المنزل، وبالفعل استطعن النساء الباحثات الوصول إلى
المنزل، وقالت كارول إن هذه اللحظة كانت الأخطر في الأمر كله
“دخول المنزل والحديقة الخلفية ودفن الرفاة هناك كان خطرا كبيرا”، لكن الأمر مر بسلام.
وتتجول كاميرا الفيلم في شوارع يافا؛ لتروي الكثير عن جمال
وروعة المدينة المُحتلة، وتقوم إحدى الصديقات بحمل الرفاة
بين يديها ودفنها في المنزل، ثم دفن جزء آخر داخل مقابل العائلة في يافا.
ويختتم الفيلم الحكاية بلحظات النهاية حيث تُنثر باقي رُفاة
عايدة في بحر يافا، وتتبع الكامير لحظة اندماجه في الماء وكل
ذلك تشاهده كارول عبر شاشة الهاتف وتدمع عيناها بين حين
وآخر، ولكن الابتسامة لا تفارق وجهها؛ لأنها حققت أمنية والدتها.
ويضم الفيلم أرشيفا ضخما من الصور التذكارية عن عايدة في
يافا وبيروت ومونتريال، صور تنبض بالحياة.
وتختتم كارول حديثها قائلة: “ممكن ياخدوا كل شيء مننا إلا
الذاكرة، نحن ما عندنا غير الذاكرة، مش هتموت حكاية
فلسطين، حكاية عايدة صحيح هي شخصية ولكن هي حكاية
جماعية أيضا تعكس حياة كل فلسطيني لاجئ طرد من بلاده
ومنع إنه يرجع، مهم نضل نحكي؛ لذلك جهزنا موقعا إلكترونيا
باسم aida returns وبه نجمع صور ناس كبار في العمر تركوا
فلسطين ولسه فاكرين وبيحكوا قصصهم مع مدنهم الفلسطينية
وبنوثقها، عشان ما نوقف حكي عن فلسطين، وما لازم نوقف نحكي؛ لأن الظلم اللي عم بيصير غير طبيعي”.
و”عودة عايدة” هو أحدث أفلام كارول منصور الوثائقية، الذي
تواصل من خلاله إرثها في تصوير محنة اللاجئين، وقد صنعت
سابقا أفلام: خياطة فلسطين عام 2017، وأتيت من مكان
جميل عام 2010، وأطفال غير مرئيين عام 2006، ولا سبيل إلى العودة الآن يا صديقي عام 2014.
وتعمل حاليا على فيلم وثائقي جديد عن الدكتور غسان أبوستة،
الجراح البريطاني الفلسطيني الذي سافر إلى غزة للمساعدة في
علاج الجرحى بعد 7 أكتوبر 2023.