الرموز والكنوز في شعر الصوفية
اعداد عادل شلبى
دراسة رائعة لأستاذنا الدكتور رمضان الحضرى فى الرمز والرمزية فى أشعار المتصوفة يقول أستاذنا
ستعاني الأمة العربية على وجه التحديد لقرون عديدة لعدم قدرتها
على الخروج من عباءتها القديمة منذ نهاية العصر العباسي الثاني
وحتى هذه اللحظة ، فالعلماء لا يخرجون إلا من قصر الخلافة ،
والشعراء هم من يدخلون عند الخليفة ، والمغنون من يعتمدهم
أمير المؤمنين ، فالأمة العربية لاتستطيع أن تعتمد شاعرا أو
عالما أو مطربا ، مما يجعلها أمة مقودة منذ نهاية العصر العباسي
كما أسلفت ، فقادها الموالي في الشام والجزيرة ، وقادها المماليك
في مصر وشمال إفريقيا ، حتى دخل عثمان وجنوده فلم يبق لها
أثر ، فمن فقه ذهب للأستانة ، ومن شعُرَ لحق بمن فقه ، ومن
أتقن صنعته رافقهما .
سيظل العالم العربي يعاني معاناة كبيرة من البقاء في البيت القديم
متعللا بأن هذا فهم للدين وفهم للغة العربية ، والحق أن الآخرين
يساعدون العالم العربي على ذلك مساعدة كبيرة ، حتى لنجد دراسات
عن المذاهب الإسلامية في الجامعات الغربية لتنتج الفوارق التي
لم تكن موجودة في دين الله ، ولم تنزل مع الوحي فلم يأمرنا الوحي
أن نتبع أحدا كائنا من كان سوى الرسول الأعظم عليه الصلاة
والسلام .
سيعاني المجتمع العربي لفترة طويلة بسبب فرض وصايته على
العقول ، وتحديد الأفكار والحكم على النوايا ، وكأن كل إنسان
قد شقَّ عن قلب غيره وتأكد ورأي وسمع وفهم ووعى .
لله در أهل التصوف الذين شقوا طريقهم ، فمنهم من مات قبل
أن يصل ، ومنهم من ظن أنه وصل بينما هو لم يمش خطوة
، والعذر لكل شاعر في وطننا العربي حاول أن يتحرر من ألف
ربقة وضعت في قدمه ، وألف حبل مقصلة في عنقه ، وألف
سد في طريقه ، وألف حد عليه التزامه وتطبيقه .
جاءت تسمية الصوفية من افتراضات كثيرة ، جميعها ليست
محققة ، بداية من لبس الصوف ، وكأن كل لابس للصوف
سنطلق عليه متصوفا ، أو من أهل ( الصُّفَّةِ ) الفقراء الذين
كانوا يعيشون في عصر النبي المصطفى حول مسجده ، أو
كما ذكر القشيري والبيروني وماسينيون وغيرهم أن كلمة الصوفية
مأخوذة من اللغة اليونانية القديمة من لفظ ( صوفيا ) بمعنى
الحكمة ، المهم أن هناك فكرا اتفق العرب على تسميته بالصوفية
، لكن البحث العلمي في بلادنا لم يتخلص من الميل الشخصي
سواء كان نفعيا أو جهلا ، فحينما يعالج باحثا قضية فإنه يرفع
أقواما وأفكارا ، ويخفض أفكارا وأقواما ، فهو لا يلزم جانب
الحياد المطلوب لموضوعية البحث ، وهذا الانحياز لفكر طائفة
جعل الفكر العربي فكرا طائفيا ، فمن مدح مذهبا قدح بقية المذاهب
ومن مال للنِحْلَةٍ هدم باقي النِحَلِ ، مما جعل هناك تعارضات بين
العلوم والفنون عند العرب ، فحينما أعالج شعر الصوفية سوف
يتهمني المتسلفون بمناهضة نهضة الدين ، فمن مدح طائفة متهم
بمعاداة بقية الطوائف ، على الرغم أن الله قد أنزل دينه للناس كافة
لا لفئة ولا لدولة ولا لمكان ما ولا لزمان محدد ( وما أرسلناك إلا
رحمة للعالمين ) فمحمد بن عبد الله خاتم الانبياء والمرسلين أرسله
الله لكل العالم لمن نعرفه ولمن لانعرفه ، ولسنا أوصياء على أحد
فقد خلق الله الناس أحرارا ، فما مبررات أن يستعبد بعضهم بعضا
؟ ، لاشك أن الخطورة في فهمنا نحن للحياة وللعلوم وللدين .
وحينما ألج في بحر الصوفية فإنني أسبح في بحر محاولا
قياس عمقه ، والتعريف بطوله وعرضه ، والكشف عن تنوع
جواهره ودره ، لا يعنيني أن أكون منهم أو غريبا عنهم أو محبا
أو رافضا لهم ، بل ما يعنيني أن أقول ما أراه بوعي وفهم ،
وأثبت ما فهمت بدليل وبرهان .
فالمتصوفة قدموا فهما مختلفا للحياة وللدين ، فليس هناك من عاشق
ومعشوق ولا حبيب ومحبوب ، ولا واصل وموصول ، بل كل
عاشق ومعشوق واحد يختلفان في المظهر ويتحدان في الحقيقة
والجوهر ، فمظهر العاشق الفناء وحقيقته مع معشوقه البقاء
فالمتصوف زاهد في الدنيا لأنها تفنى ، وسالك للطريق لأنه
سوف يصل للباقي لكي يبقى ، وكلما قطع مسافة في الحال
وصل إلى مقام من مقامات التصوف ، فيبدأ رحلته من مقام
التوبة ثم يحاول أن يصل إلى مقام الورع ثم إلى مقام الزهد
وبعدهم مقام الفقر ، ومقام الصبر ومقام التوكل وغيرها من
المقامات حتى يصل في النهاية إلى مقام الرضا .
وفي أثناء كل مقام يشعر بحالة مختلفة عن المقام السابق واللاحق
وهذه ما أسماها أهل التصوف بالأحوال ، فلكل مقام حالة أو حال
، فهناك حال الخوف وحال الرجاء وحال الشوق وحال المؤانسة
وحال الاطمئنان ، وحال المشاهدة والسعادة ، وغيرها من الأحوال.
وفي كل مقام وحال للمتصوف اسم خاص بالحال والمقام ، فيبدأ
باسم السالك ثم المريد ، حتى إذا انتهى لمقام الرضا فرأى وحدة
العابد بالمعبود والمحب بالمحبوب يحصل على اسم العارف بالله .
فإذا وصلنا لشعراء الصوفية فسوف نجدهم يصورون عالما خاصاً
يعيشون فيه غير هذا العالم المادي الذي نعيشه ، وقد اختاروا من
مفردات العامة ألفاظا حولوها لرموز خاصة عندهم ، ليظهر الفرق
جليا بين المتصوف السابح في الفضاء ، وعامة الناس الذين يسيرون
على الأرض ، ولذا فإن الحكم على رموز الصوفية لن يكون حكما
عقليا ، لأن الصوفية يرون أن العقل حجاب بين الإنسان وربه
، فحينما اختار أهل النحو كلمة فاعل لتدل على من قام بالفعل
فهذا اختيار عقلي يساير المنطق والفكر ، بينما حينما يختار
المتصوف لفظ ( ليلى ) من الشعراء العشاق للنساء ، لتصبح
كلمة ليلى رمزا صوفيا تدل على كلمة التوحيد ، وحينما يختار
المتصوفة لفظ الخمر من أهل السكر والفجور ، فهم جعلوها
رمزا صوفيا لأحوالهم ومقامتهم ، فهم يرون أن الأصل في
العنب أن يكون خمرا ، فإذا صار خمرا لايمكنه الرجوع
مرة أخرى إلى حالة العنب ، بل كلما استمر خمرا ومر الزمان
عليه كلما كان أفضل للشاربين ، فالخمر عندهم ترمز للسمو والعلو ،
والاقتراب من الحقيقة فرموز التصوف نحكم عليها بالتذوق
والفهم الجمالي للرمز ، ولكننا إذا حكمنا عليها حكما منطقيا
فسوف تفقد أهميتها وربما تصير كل هذه الرموز إلى لا رموز .
وحينما يحسن المرء في استخدام الرمز فسوف يقدم جماليات لا
حصر لها ، وحينما يسيء الناس في استخدام الرمز فسوف يحدث
مالا تحمد عقباه ، فما كانت الأصنام سوى رموز ، فلما جردها
الناس من الرمزية لتصبح حقيقة في الواقع تحولت في إلى معبودة ،
لأن الناس قد نسوا رمزيتها التي ترمز لحقيقة في الخفاء ، حقيقة
بعيدة عن إدراكات الحواس ، وهكذا كانت اللات والعزى وهبل ،
وقبلها الوثنيات الإغريقية والهندية ، والرموز المصرية القديمة
التي تشير إلى ألهة عند القدماء المصريين .
فالرمز في شعر المتصوفة إشارة للبعيد والخفي ، وهو ليس للفهم
ولكنه للشعور والحس والتذوق ، وهذا ماجعل بعض الناس يرون
أن هناك وثنية وربما كفر في بعض أشعار المتصوفة ، لأنهم اخذوا
الرمز على أنه حقيقة منطقية قابلة للتطبيق في الواقع .
فالرمز في شعر الصوفية يمكنك أن تدركه ولكنك لا تستطيع أن
تلمسه ، ويمكنك أن تتصوره وتتخيله ولا يمكنك أن تفصله
أو تدلل عليه ، فهو شعر جميل تراه ولا تراه ، وتعرفه ولا
تعرفه ، وتحبه ولا تعرف سبب الحب ، كسته رموزهم
جلالا فوق الجمال ، فترى الجمال ولكن لايمكنك أن تكشفه
، فالعقل عند شعراء التصوف نوع من الحجاب الذي يحجب
الجمال ، ولا يمكن أن نشعر بما يشعر به الصوفي إلا إذا
التزمنا الذوق والإلهام ، وليس الفكر العقلي أو المنطقي أو
الأحكام .
يقول المتصوف سلطان العاشقين ابن الفارض :
زِدْني بفَرْطِ الحُبّ فيك تَحَيُّرا
وارْحَمْ حشىً بلَظَى هواكَ تسعّرا
وإذا سألُتكَ أن أراكَ حقيقةً
فاسمَحْ ولا تجعلْ جوابي لن تَرى
يا قلبُ أنتَ وعدَتني في حُبّهمْ
صَبراً فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا
إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ
صَبّاً فحقّك أن تَموتَ وتُعذرا
قُل لِلّذِينَ تقدَّموا قَبلي ومَن
بَعدي ومَن أضحى لأشجاني يَرَى
عنّي خذوا وبي اقْتدوا وليَ اسمعوا
وتحدّثوا بصَبابتي بَينَ الوَرى
ولقد خَلَوْتُ مع الحَبيب وبَيْنَنَا
سِرٌّ أرَقّ منَ النسيمِ إذا سرى
وأباحَ طَرْفِي نَظْرْةً أمّلْتُها
فَغَدَوْتُ معروفاً وكُنْتُ مُنَكَّرا
فَدُهِشْتُ بينَ جمالِهِ وجَلالِهِ
وغدا لسانُ الحال عنّي مُخْبِرا
فأَدِرْ لِحَاظَكَ في محاسنِ وجْهه
تَلْقَى جميعَ الحُسْنِ فيه مُصَوَّرا
لو أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورةً
ورآهُ كان مُهَلِّلًا ومُكَبِّرا
*****
وقال محي الدين ابن عربي
*******
لقدْ صارَ قلبي قابلًا كلَّ صورةٍ
فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ
وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ
وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ
رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني
لنا أُسْوَةٌ في بِشْرِ هندٍ وأُخْتِهَا
وقيسٍ وليلى، ثمَّ ميٍّ وغيلانِ
********
ومن أشعار الحلاج :
عجبتُ منك و منـّـي
يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي
أدنيتـَني منك حتـّـى
ظننتُ أنـّك أنـّــي
وغبتُ في الوجد حتـّى
أفنيتنـَي بك عنـّــي
يا نعمتي في حياتــي
و راحتي بعد دفنـــي
ما لي بغيرك أُنــسٌ
من حيث خوفي وأمنـي
يا من رياض معانيـ
هـ قد حويت كل فنـّـي
وإن تمنيْت شيْئًا
فأنت كل التمنـّـــي
هذه تقدمة للبدء في دراسة شعر الصوفية ، وسوف ياتي المقال
في اللقاء القادم مباشرة بإذن الله جل في علاه .