الججيج وأيام مَعدُودات
الججيج وأيام مَعدُودات
كتبت/ناهدعثمان
الليلة الثامنة
تَنتثرُ خِيامُ مِنى في عَتمَةِ الظَّلامِ ؛ مثلَ قِبابِ النّور ..
تَرتفعُ الفَوانيسُ في الخِيامِ .. ويبدو العابدونَ ؛ مثل غرَّةٍ بيضاءَ في ليلةٍ حالِكة ..
وتبدو مِنى ؛ مثل حُقولِ القَمر !
يَتآلفُ هديلُ الحَمامِ في منى ؛ معَ صوتِ المُعتكفين على القرآن .. يُرتِّلون بأصواتٍ سَماويَّةٍ .. حتى يَفيض المُصحفُ في قُلوبِهم نورًا أبديًا !
يَرتشفونَ القرآنَ ..
ثغورُهم تَفترُ عن ضوءٍ يَنسكِبُ في المَكان !
تَتلألأ خيامُ مِنَى ؛ كأنّها اشتِعالُ الدّهشة ..
كأنها ضبابٌ كثيفٌ مِن خَفْقِ النّور .. من أجنِحةِ المَلائكَة !
هنَا ..
تُنقَشُ حروفُ الآخرةِ ، و تَذبلُ حروفُ الدّنيا !
هنا ..
بِدءُ المسافَة إلى صوتِ السّلام في النّعيم !
وهنا ..
الليلُ يقيدُهُ صوتُ القارئين !
و يَرتَقي القلبُ من الفَراغِ إلى الجَواب ؛ أنه :
” لنْ يذْبلَ قلبٌ صارَ له القرآنُ ساقيًا ” ..
وأن كلّ خيرٍ ؛ سيورِقُ من سُطور المُصحَف !
هنا ..
تَتلو مكةُ سورةَ الأعلى ، ويَلتَفتُ الحجيج ؛ُ فلا أَثَر لِـ{ حَمّالَة الحَطَب } !
يَتدثرُ الحجيجُ برائحةِ الوَحي ..
و تَهمِسُ الملائكةُ :
{ يا أيّها المُزَّمِل قُمِ الليلَ } !
يَسقطُ الحزنُ ، ويَستفيقُ الغيثُ في : { ألَمْ نَشْرح} !
يُصبِحُ المَدى غيومًا بِـوعد :
{ إنّا أعطيناكَ الكَوثَر} !
تَصفو النجومُ ؛ حتى كأنّ الزمانَ هو :
{ الفجرُ و ليالٍ عَشْر} !
و تَقتربُ الوعودُ المُمطرةُ ؛ حتى تَكاد تَسمع :
{ و لَسوفَ يُعطيكَ ربُّك فَترضَى } !
تَهبُّ نسائمُ الجنة في مِنى ؛ حتى كأنّها تحميكَ من :
{ شرِّ الوَسواسِ الخَنّاس } !
و تُبقيكَ في حفظ :
{ الله الصَمَد} !
و ترَى أبوابَ السماءِ ؛ إذ تنهمر بحجارة من سجيل ، وتسمع الحقيقة في قوله :
{ ألم تر} !
فيا للقرآن ..
كيف يتجلى في أرواح الحجيج !
تردده مكة ؛ كأنه يتنزل من { الأفق الأعلى } !
في رحلة الحج ..
يتعلم الحجيج .. أنه على قدر طول الصُّحبة مع القرآنِ ؛ يمنَحُك القرآنُ من أسرارهِ ، وفَيضِ بركاتِه ..
ويوقفك على شرفة المستحيل !
أما بلغك أنه ﷺ كان يتبرَّكُ بآيات القرآن ، و يستعين بكلمات الله !
كان ﷺ فِي غَزْوَةٍ ، فَلَقِيَ الْعَدُوَّ ، فَسَمِعْهُ أحد الصّحابة يَقُولُ :
( يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ..
فقَالَ الصحابي :
وَلَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ تُصْرَعُ ، تَضْرِبُهَا الْمَلائِكَةُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهَا وَمِنْ خَلْفِهَا !
يقتفي إبن القيم أثر القافلة المحمدية المباركة ، ويرتحل خلفها .. واسمعه إذ يقول :
” ولقد مرّ بي وقت في مكـة سَقِمتُ فيه، ولا أجدُ طبيباً ولا دواءً ؛ فكنت أعالجُ نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيباً، آخذ شربة من مـاء زمزم وأقرؤها عليها الفاتحة مراراً ؛ ثم أشربه ، فوجدتُّ بذلك البرء التّام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع ؛ فأنتفع به غاية الانتفاع ، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً ؛ فكان كثير منهم يبرأ سريعاً ” !
فإن كان لك حاجه .. فأعطِ القرآن على قدر ماترغب أن يعطيك الله في حاجتك !
فقد أوصى الإمامُ إبراهيم المقدسي تلميذَه عبّاس بن عبد الدايم – رحمهم الله – :
[ أكثِر من قراءة القُرآن ، ولا تتركه ؛ فإنه يتيسّر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ ] !
و قال العَبّاس :
” فرأيتُ ذلك وجرّبته كثيراً، فكنتُ إذا قرأتُ كثيراً ؛ تيسّر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير ، وإذا لم أقرأ ؛ لم يتيسّر ” !
جرّبوا ذلك باليقين ..
اقرأوا سورة الفاتحة و سور القرآن !
جرّبوا قراءة سورة { ألم نشرح } ..
كرروها ؛ واسألوا الله بها أن ييسر أمركم !
تشبّثوا بالقُرآن ..
عامِلوه بما يليق ..
وأذَنوا لكلِّ خلاياكم أن تتشرَّبَ شِفاءه ، وتتنفّس روحه !
و رحم الله إبن مسعود ..
الذي كان اذا قرأ القرآن ؛ كانت مِحبَرَتُه معه .. إذ كان يُسَطِّرُ فيض القرآن فيه !