
آلام وآمال
بقلم : محمد عبد العزيز الهدهد
الفصل الأول: النشأة
أما باب إحدى الكليات العريقة راحت الذكريات تداعب دماغ ذلك الشاب وتعصف بقلبه ومشاعره عصفا هل سيتحقق ذلك الحلم الذي لطالما انتظرته
في أطراف قرية بسيطة، وفي بيت صغير يفيض بالحب رغم ضيق الحال، نشأ طفلٌ صغير وسط أسرةٍ مكوّنة من سبعة أفراد. كان هو الأصغر بين البنين، وقبل الأخير في ترتيب إخوته جميعًا. لم يكن البيت واسعًا، ولا الظروف رخية، لكن الدفء الإنساني كان يغمر المكان كضوءٍ لا ينطفئ.
كان الأب موظفًا محدود الدخل، يعمل بجد ويعود متعبًا، لكنه يحمل قيمًا عليا، يورثها لأبنائه أكثر مما يورثهم مالًا. رجلٌ صلب، مستقيم، يعرف قدر المسؤولية ويقدّر شرف العمل.
أما الأم، فكانت ربة منزل بسيطة، لكن قلبها كان مدرسة، وعقلها كتابًا مفتوحًا. كانت تجيد القراءة والكتابة، وتعلّم أبناءها الحروف والرسم، وتحبّب إليهم الحياة والخير والطيبة، وتغرس في نفوسهم بذور الرحمة وفعل الخير حيثما حلّوا.
لم يكن في يد الأسرة شيء من حطام الدنيا، لكنهم امتلكوا ما هو أثمن: الترابط، والتآصر، والمحبة التي تجعل الفقر خفيفًا، والضيق محتملًا، والحياة أدفأ مما تبدو.
هكذا بدأت حكاية «آلام وآمال»، من بيت ضيق المساحة… واسع الروح.
الفصل الثاني: بوابة الشارع
ومع انشغال الأب في عمله، وانهماك الأم في أعباء البيت وتربية الإخوة، خرج يوسف إلى الشارع لأول مرة منطلقًا من القيود الدافئة التي تحيطه بها أمه. كان الشارع بالنسبة له عالمًا جديدًا، مفتوحًا بلا أسوار، فيه يلهو ويلعب ويتعرف إلى خبرات لم يكن ليجدها داخل حدود البيت.
كانت الحارة التي خرج إليها مكتظة بالناس، يختلط فيها الطيبون بالقساة، والمحبون بالمضطربين، والفقراء الذين يشبهون أسرته، وأناس آخرون من طبقات مختلفة. هناك تعلّم يوسف أشياء جميلة؛ كالمشاركة، والشهامة، والمرح مع الأطفال الذين يشبهونه. وتعلّم أيضًا ما هو سيئ؛ كالخشونة، وبعض الكلمات التي لم يكن يسمعها في بيته، وطبيعة الصراعات الصغيرة التي تنشأ بين الصغار.
كان الشارع مدرسة واسعة، لا يختار أحد مناهجها، ولا تحدّها أخلاق بيتٍ أو قيم أسرة. وكل يوم يمرّ فيه كان يزيد يوسف فهمًا للعالم، ويضيف إلى روحه شيئًا من النور… وشيئًا من الغبار.
الفصل الثالث: لعبة الظل والذكاء
في تلك الليلة الكاحلة، حين ينام الكبار مبكرًا وتبقى الحارة مستيقظة بأنفاس الأطفال، اجتمع صغارها حول لعبة “ثبت” أو كما يسميها أهل مصر ” الأستغماية “. كانت اللعبة مزيجًا من الضحك والصراخ والركض، لكنها بالنسبة ليوسف كانت عالمًا آخر يتعلم فيه ما لم يتعلمه في أي مكان.
انقسم الأطفال إلى فريقين، كل فريق يضم خمسة إلى سبعة صغار. مهمة الفريق الأول: الاختباء في أي ركن مظلم أو خلف أي حائط أو عربة كارو قديمة أو شجرة جافة. ومهمة الفريق الثاني: مطاردتهم والإمساك بهم قبل أن يصلوا إلى “الأُمّة”، ذلك الحائط الذي يختاره الأطفال ليكون خط النهاية، وخط الفوز.
هنا، في هذه الزاوية الضيقة من الحارة، استيقظ داخل يوسف شيء لم يكن يعرف اسمه: الميتا-معرفة, القدرة على التفكير في التفكير… على التخطيط قبل الفعل… على رؤية الصورة الكبيرة رغم صغر السن.
لم يكن يدرك أنه يتعلّم، لكنه كان يضع خطة.
كان يهمس لأصحابه الصغار:
“إنت تخبّى ورا العربية.”
“إنت لفّ من الزقاق.”
“حد يشغلهم بالكلام… وأنا هاجري للأمة.”
كان يقودهم دون أن يشعر أنه يقود، يوجّههم رغم أن لا أحد منهم يعرف كلمة “تنظيم” أو “استراتيجية” أو “تنسيق”. كل ما يعرفونه أن يوسف لديه طريقة تجلب الفوز.
وفي كل مرة كانوا ينجحون في الوصول إلى “الأُمّة” دون أن يمسك بهم أحد، كان الأطفال يصفقون، ويضحكون، ويهتفون باسمه ضاحكين… دون أن يدركوا أن هذا الطفل يتشكل داخله شيء كبير، شيء سيلعب دورًا في حياته لاحقًا… في فهمه، وفي قراراته، وفي طرقه لرؤية العالم.
ذهب يوسف إلى البيت في خلسة، ودخل إليه دون أن يشعر أحد بتأخره، ولاذ بالفراش فارًا من ذلك المجهول الذي عاينه لأول مرة في حياته ولم يكن يعرف عنه شيئًا. التفَّ في لحافه حتى أخمص قدميه، وراح يفكر: ما الذي حدث؟! وما هذا الص
وت الذي مزق ليل الحارة؟!
اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.