العاصمة

خطة ترامب لأوكرانيا والانكشاف الأوروبي الكامل.. إعادة رسم أمن القارة دون مقعد لها على الطاولة

0

 

إيمى عمرو

– اتفاق سلام يُخضِع أوكرانيا لمطالب موسكو ويكشف هشاشة الدور الأوروبي الذي لم يُستشر في صياغة مستقبل أمنه

– محللون أوروبيون: روسيا تستغل ضعف أوكرانيا وترامب يسعى لإنجاز سريع.. والقارة العجوز تكتشف أنها مجرد «متلقٍ» لقرارات تُصاغ فوق أراضيها

لم يكن طرح خطة السلام الأمريكية لإنهاء الحرب في أوكرانيا المكونة من 28 بندًا حدثًا دبلوماسيًا عاديًا، بل كشفًا فجًا لاختلالات بنيوية في موقع أوروبا داخل منظومة الأمن العالمي؛ فالخطة، التي صاغها فريق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتنسيق المباشر مع الكرملين، لم تفاجئ كييف فقط ببنودها التي تُشرعن مكاسب روسيا في أوكرانيا، بل صدمت العواصم الأوروبية التي اكتشفت أنها أصبحت، كما وصفها الصحفي والمفكر السياسي النمساوي المخضرم كورت ساينيتس، “قوة يتم إبلاغها بالقرارات وليس استشارتها”.

 

تلك هي الحقيقة المروّعة: أوروبا التي تشهد حربًا على أراضيها لم تعد لاعبًا، بل مقعدًا خاليًا في غرفة يُعاد فيها رسم حدود النفوذ العالمي.

 

جوهر الخطة، كما أوضح المحلل إريك فراي في افتتاحيته لصحيفة Der Standard النمساوية، هو أن واشنطن قررت إنهاء الحرب بأي ثمن، “حتى لو كان الثمن خسارة أوكرانيا لسيادتها وأوروبا لهيبتها”؛ فالبنود المسرّبة تجعل أوكرانيا دولة محدودة السيادة عبر: التخلي الكامل عن دونيتسك ولوجانسك، وتثبيت السيطرة الروسية على أجزاء من خيرسون وزابوروجيا، والاعتراف العملي بضمّ القرم، وتقليص الجيش الأوكراني إلى حد يعطل قدرته الدفاعية، وإلغاء أي احتمال للانضمام إلى الناتو.. كل ذلك مقابل وعود أمريكية غير واضحة بتقديم “ضمانات أمنية” لا تتضمن التزامات دفاعية صريحة؛ الأمر الذي يجعلها أقرب إلى أداة سياسية يمكن سحبها أو إعادة تفسيرها في أي لحظة.

 

– لحظة الضعف الأشد في كييف

 

هذا البناء يجعل الخطة أقرب إلى “وثيقة استسلام” منها إلى اتفاق سلام، وهو ما أكده المحلل نيك باتون والش في تحليل لشبكة CNN الأمريكية، حين قال إن الوثيقة “منحت روسيا كل ما تريده تقريبًا”، وإنها “إعادة تدوير شبه حرفية للمطالب الروسية المتشددة التي طُرحت في إسطنبول عام 2022”.

 

الأكثر دلالة، كما أشار والش، هو التوقيت: موسكو اختارت اللحظة التي تجد فيها كييف نفسها في أضعف وضع عسكري وسياسي منذ بدء الحرب، حيث تتقدم القوات الروسية نحو بوكروفسك وتحقق اختراقات في جبهة زابوروجيا، بينما تواجه أوكرانيا أزمة تجنيد، وضعفاً في الموارد، وتسارعاً في قدرات الطائرات المسيّرة الروسية، إضافة إلى تآكل شعبية الرئيس فولوديمير زيلينسكي بسبب فضائح الفساد والانقطاع الحاد للكهرباء.

 

– قارة تُعامل كطرف هامشي

 

غير أن الخسارة الأكبر ليست أوكرانية فقط، بل أوروبية؛ فالقارة العجوز، بحسب افتتاحية صحيفة Die Presse النمساوية، اليوم السبت، وكتبها كريستيان ألتش، تلعب “دورًا مثيرًا للشفقة”، بعدما وضعت الولايات المتحدة في الخطة بنودًا تُلزم أوروبا، من طرف واحد، بتمويل 100 مليار دولار لإعادة إعمار أوكرانيا ومنحها وصولًا مميزًا إلى السوق الأوروبية، من دون أي تشاور مسبق.

 

يتساءل ألتش بمرارة: كيف يمكن لأمريكا أن ترسم مستقبل الأمن الأوروبي وتفرض التزامات مالية ضخمة على الاتحاد الأوروبي من دون حتى مكالمة هاتفية؟ الجواب واضح: لأن أوروبا فقدت قدرتها على الفعل المستقل، وباتت تعتمد على حماية أمريكية لا تملك التأثير عليها.

 

هذا الانكشاف جعل أصواتًا أوروبية بارزة تدق ناقوس الخطر. فقد وصفت كايا كالاس، السياسية الإستونية البارزة ومسئولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، اللحظة بأنها “لحظة شديدة الخطورة”، مؤكدة أن “أي اتفاق يجب أن يمر عبر أوكرانيا وأوروبا، لا فوق رأسيهما”.

 

أما وزير الخارجية الألماني يوهان فاديبول، فحاول التخفيف من وقع الصدمة بقوله إن الخطة “قائمة من المواضيع التي تحتاج إلى نقاش”، لكن ذلك لم يخف الانزعاج الأوروبي من تجاوزهم في أخطر ملف يمس أمن القارة.

 

 

– مكاسب روسية بلا مقابل

 

إضافة إلى ذلك، تُبرز الخطة ما يعتبره المحللون “ميزة مزدوجة” لروسيا: فهي تحصل على مكاسب جغرافية وديموغرافية واستراتيجية من دون تقديم تنازلات جوهرية، وتُمنح في المقابل فرصة رفع العقوبات عنها، وإعادة إدماج اقتصادها في النظام المالي العالمي، وربما العودة إلى مجموعة الثماني G8. كل ذلك في وقت تستعيد فيه موسكو أفضل وضع عسكري لها منذ عام، بينما يتراجع التفوق الأوكراني على مستوى الطائرات المسيّرة، ويزداد الضغط على دفاعات كييف تحت وطأة نقص الذخائر والطاقة.

 

في المقابل، تحمل الخطة ألغامًا شديدة الخطورة؛ فالدعوة إلى انتخابات خلال مئة يوم من توقيع الاتفاق تبدو شبه مستحيلة تقنيًا، وهو ما يجعل من المرجح أن تنتج حكومة ضعيفة، مطعونًا في شرعيتها، مما يمنح موسكو فرصة جديدة لزعزعة الاستقرار. كما أن تحويل أجزاء من دونباس إلى “منطقة منزوعة السلاح” تحت سيطرة “قوات مدنية” روسية يفتح الباب أمام سيناريوهات تسلل وتغيير ديموغرافي لا يقل خطورة عن سيناريو الغزو المباشر. أما أخطر البنود فهو شرط إسقاط الضمانات الأمنية عن أوكرانيا إذا قامت بهجوم “دون سبب” على روسيا، وهو تعبير فضفاض يمكن للكرملين تفسيره كما يشاء لنسف الاتفاق في أي وقت.

 

– اختبار وجودي لأوروبا

 

في المحصلة، تبدو خطة ترامب – بوتين اختبارًا وجوديًا لأوروبا؛ فقبولها يعني أن القارة العجوز ستكون قد سلّمت بمبدأ أن أمنها يُصاغ خارج حدودها، وأن واشنطن وموسكو هما اللتان ستقرران شكل النظام الأمني الأوروبي، من دون حضور الأوروبيين أنفسهم.

 

كما يعني أن الاتحاد الأوروبي، بكل قوته الاقتصادية ونفوذه السياسي، لم يعد قادرًا على منع إعادة رسم الحدود بالقوة، ولا على فرض نفسه في مفاوضات تحدد مصير شرق أوروبا الأشبه بـ”القاهرة الجديدة للتوازنات العالمية”.

 

إنها لحظة الحقيقة: إما أن تفرض أوروبا نفسها لاعبًا في تقرير مستقبل القارة، أو تقبل بدورها المتقلص كـ”قوة تتلقى النتائج والأوامر”. وبين هذا وذاك، تظل أوكرانيا عالقة بين مطرقة الابتزاز الروسي وسندان الضغوط الأمريكية، فيما تبقى القارة تتلقى الدرس الأقسى منذ انتهاء الحرب الباردة: الأمن الأوروبي لم يعد أوروبيًا.


اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

آخر الأخبار