العاصمة

السودان نموذجًا للصراعات الجديدة على الموارد والنفوذ

0
بقلم: ناصر السلاموني
بعد سرد ما مر به الوطن العربي منذ اتفاقية سايكس بيكو وتأسيس إسرائيل وهزيمة العرب في 1948وكذلك عام 1967ومايدبر من امريكا واسرائيل للعرب نكمل رؤيتنا نحو هذا الموضوع.
حين ننتقل من التاريخ إلى الواقع، نرى أن خيوط المخطط القديم لا تزال تُنسَج بأيدٍ جديدة، وأن السودان اليوم يقف شاهدًا حيًّا على تلك الاستراتيجية التي تتخذ من الصراعات المحلية ستارًا لصراعٍ عالمي على الثروة والنفوذ.
فمنذ نهاية القرن الماضي، بدأ الإقليم الغربي للسودان – دارفور – يطفو على سطح الأحداث، لا بوصفه منطقة مهمشة كما يُروَّج، بل كخزانٍ هائل للثروات المعدنية التي لم يلتفت إليها العالم إلا حين اشتد التنافس عليها. ويأتي منجم جبل عامر للذهب في قلب هذه الدائرة، فهو من أكبر مناجم الذهب في إفريقيا، وبلغ إنتاجه عام 2023 نحو خمسين طنًا سنويًا، ويتميّز بسهولة استخراجه وارتفاع تركيزه. لكن هذه الثروة لم تجلب الخير لأهلها، بل أشعلت صراعات دامية بين القبائل والميليشيات، وتحوّلت إلى وقودٍ لحربٍ لا تنتهي.
إن ما يبدو صراعًا قبليًا أو عرقيًا في دارفور هو في جوهره تنافس على الموارد تحت غطاءٍ إثني مفتعل. فالأرض التي تحتوي الذهب واليورانيوم ليست مجرد مساحة جغرافية، بل موقع استراتيجي تتقاطع فيه مصالح الدول الإقليمية والقوى العالمية. ومن هنا بدأ السودان يدخل مرحلة جديدة من النزاعات التي تتخذ طابعًا محليًا في ظاهرها، لكنها تُدار في الخفاء بأدواتٍ دولية وإقليمية.
وقد كشفت تقارير عديدة عن أبعادٍ خفية في هذه الحرب، من بينها ما نشره موقع ميدل إيست آي، الذي أشار إلى أن الإمارات تدير عملياتٍ سرية واسعة تشمل استقدام مرتزقة من كولومبيا، وتسيير رحلاتٍ جوية منتظمة، وإرسال شحناتٍ وُصِفت بأنها تحمل علامة “مواد خطرة”، لدعم قوات الدعم السريع في مدينة الفاشر، ما يوضح حجم التشابك بين المال والسلاح والمصالح الخارجية في الأزمة السودانية.
ولم يقتصر الأمر على هذا، فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية – استنادًا إلى تنصّتٍ هاتفي – أن وكالات الاستخبارات الأمريكية توصلت إلى أن الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) كان على اتصالٍ مباشر مع اثنين من القادة الإماراتيين، هما الشيخ محمد بن زايد والشيخ منصور بن زايد، وأن مسؤولًا إماراتيًا ثالثًا كان ينسّق شبكةً من الشركات الوهمية التي ساهمت في تمويل وتسليح قوات الدعم السريع. ويُعدّ هذا الكشف الأمريكي دليلًا إضافيًا على أن الحرب في السودان لم تكن بمعزلٍ عن التدخلات الخارجية، بل تُدار بخيوطٍ مالية ولوجستية تمتد من الخليج إلى قلب إفريقيا.
كما كشف تقرير حديث للموقع ذاته عن عملية إماراتية سرية تنطلق من مطار بوساسو الصومالي في ولاية بونتلاند، يتم عبرها نقل شحنات لوجستية وأسلحة إلى مليشيا الدعم السريع في السودان باستخدام طائرات شحن روسية من طراز IL-76. وأشار التقرير إلى مرور أكثر من نصف مليون حاوية مصنفة “خطرة” عبر الميناء دون توضيح لمحتواها، وأن المطار والميناء يخضعان لإدارة ميدانية لقوات صومالية مدعومة إماراتيًا. كما كشف التقرير عن وجود مرتزقة كولومبيين يتمركزون في معسكر قرب المطار ويُنقلون إلى السودان للقتال، في وقت حذّر فيه ضباط صوماليون من أن هذه الأنشطة قد تجرّ بلادهم إلى صراعٍ إقليمي أوسع في القرن الإفريقي.
وتؤكد هذه المعطيات أن الحرب في السودان ليست معزولة عن السياق الدولي، بل تُدار عبر شبكة إمداد تمتد من القرن الإفريقي إلى الخليج، ما يجعلها نموذجًا حيًا للصراعات الجديدة على الموارد والنفوذ، حيث تتبدل الرايات وتبقى الأهداف واحدة: السيطرة على الثروة ومنع قيام دولة عربية قوية تمتلك قرارها المستقل.
إن ما يجري هناك لا يختلف في جوهره عن سيناريوهات العراق وسوريا وليبيا واليمن، بل هو حلقة جديدة في مسلسل “التفتيت بالثروة”، بعدما كانت المراحل السابقة “تفتيتًا بالسلاح والفكر”.
لقد تحولت دارفور إلى مرآةٍ عاكسة لواقع الأمة بأكملها، فالثروات التي كان ينبغي أن تكون ركيزة للنهوض أصبحت لعنةً تجذب الأطماع، والدماء التي تُسفك باسم الهوية تُراق في الحقيقة من أجل الذهب واليورانيوم والنفوذ. إنها مأساة تتكرر في ثوبٍ جديد، حيث تُباع الجغرافيا بثمنٍ بخس تحت أعين العالم، بينما تُروَّج الأكاذيب بأن ما يجري “حرب أهلية” أو “نزاع داخلي”، لتُخفى الحقيقة خلف ستارٍ كثيف من التضليل الإعلامي.
إن الصراع في السودان ليس سوى انعكاسٍ لمعادلةٍ أكبر ترسمها القوى العالمية: إضعاف الدول العربية التي تمتلك ثرواتٍ طبيعية أو موقعًا استراتيجيًا، ودفعها إلى حروبٍ داخلية تُبقيها منشغلة بنفسها. فحين تنشغل الخرطوم بدارفور، وتتحول مواردها إلى غنائم تتقاسمها الشركات والميليشيات، يتحقق الهدف ذاته الذي سعت إليه القوى الاستعمارية منذ سايكس بيكو: تفكيك البنية العربية من الداخل حتى لا تقوم لها قائمة.
وهكذا تكتمل الصورة بين التاريخ والواقع؛ فالمخططات القديمة التي رُسمت على الورق تُعاد اليوم بلونٍ جديد، تُنفَّذ عبر الاقتصاد والإعلام والسلاح، وتستهدف إعادة تشكيل الشرق العربي بما يتناسب مع مصالح القوى الكبرى. وبينما يتقاتل الإخوة على حدودٍ واهية وثرواتٍ منهوبة، يبقى الحلم العربي في الوحدة والسيادة مؤجلًا، ينتظر من يعيد إليه نبض الحياة وسط هذا الركام من الدم والذهب.

اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

آخر الأخبار