
طوير ألذهب
ايمان العادلى
اسرع شخص في العالم هل كان من الجن؟
في صحارى العراق، بين رمال السماوة الممتدة حتى تخوم الحدود السعودية والكويتية، ولد رجل تخطى حدود الخيال والعقل، رجل لم يعرف المستحيل يوما، ولم تقيده المسافات ولا القوانين الطبيعية التي يعرفها البشر. كان اسمه جبر آل شايب التوبي القعيقعي الرويلي العنزي، لكن الناس لم تعرفه إلا بلقبه الأسطوري: طوير الذهب. ويحكى أن هذا اللقب لم يأت من فراغ، فقد شبهه الناس بطائر ذهبي يخطف الأبصار حين يجري، إذ كان عرقه يلمع تحت الشمس كوميض الذهب، وكان من يراه من بعيد يظنه طيفا لا يدرك. لم يكن هذا الاسم مجرد لقب، بل كان وصفا لوميض بشري يعبر الصحراء كما يعبر البرق السماء. فالرجل الذي حير الدوريات الحدودية وأدهش العالم بسرعته الخرافية، كان يقطع عشرات الكيلومترات في ساعات معدودة، بل يقال إنه كان يقطع سبعين كيلومترا في ساعة واحدة جريا بين العراق والكويت والسعودية. كانت الدوريات السعودية تسميه “الجني العراقي”، إذ لم يكن أحد يصدق أن هذا الجسد البشري قادر على الحركة بهذه السرعة. وكان أهل البادية إذا لمحوا غبارا كثيفا يتطاير في الأفق قالوا: “هذا طوير الذهب مر من هنا”، لأن الغبار كان يثور خلفه كعاصفة صغيرة من شدة ركضه، وقد اشتهر بين الناس أنه كان يتسابق أحيانا مع القطار القادم من السماوة، فيجري بمحاذاته فيندهش الركاب لرؤيته، حتى إن بعضهم أقسم أنه تقدم على القطار للحظات. في أواخر السبعينات، نصبت له كمائن عديدة على الحدود، حتى تمكنت دورية كويتية من القبض عليه يوما. بدا الأمر حاسما، فقد كان في صحراء مفتوحة، والدورية تمتلك سيارة “جيب” حديثة، بينما هو أعزل وعلى قدميه. طلب منهم أن يقضي حاجته، فسمحوا له مطمئنين، ظنا منهم أن لا مهرب له. وحين انتهى، لوح بيده مودعا وقال: “في أمان الله”، ثم انطلق. لم يكد أحدهم يرمش حتى أصبح أثره غبارا يتلاشى في الأفق، بينما عجزت السيارة بكل قوتها عن اللحاق به. كانت تلك اللحظة كافية لتتحول قصته إلى أسطورة تروى في المجالس، وتتناقلها الألسن في البادية والمدينة على حد سواء. وقد روى بعض الشهود أن الدورية ظنت أول الأمر أنه اختفى بفعل الجن، لأنهم لم يصدقوا أن إنسانا يمكن أن يختفي بهذه السرعة، فلقبوه بالجني العراقي. ولم تتوقف حكايات “طوير الذهب” عند الحدود. ففي السعودية، كان يعمل في إحدى العمارات عندما سمع مهندس لبناني عن قصصه الخارقة، فسخر منها، وقرر أن يختبرها بنفسه. تحداه في سباق: المهندس بسيارته الحديثة، و”طوير الذهب” على قدميه، والهدف بناية تبعد ستة كيلومترات. انطلق الاثنان في اللحظة نفسها، وابتسم المهندس بثقة، مؤمنا بأن الرهان محسوم لصالحه. لكن حين وصل إلى وجهته، فوجئ برجل ينتظره هناك، واقفا عند باب البناية، يحمل كوب شاي، ويبتسم بهدوء كأن شيئا لم يكن ويقال إن المهندس حينها لم يصدق ما رأى، فظل يردد: “هذا ليس إنسانا، هذا إعصار يمشي على قدمين!”، حتى أن العمال ظلوا يروون القصة لعقود بعدها بدهشة وإعجاب. وحين سئل ذات مرة، ممازحا، لماذا لا يستغل سرعته في سرقة المصارف أو المحلات، أجاب ببساطة وصدق عجيب: “لا أستطيع، أولا لأنه حرام، وثانيا لأنني لا أقدر أن أستدير بزاوية حادة، فقد أرتطم بالجدار أو بشيء أمامي”. كانت تلك الإجابة، ببساطتها، تختصر جوهر الرجل: مزيج من القوة الخارقة والتقوى البدوية الأصيلة. وكان كثيرون يرون فيه مثالا فريدا للقوة المقرونة بالإيمان، فقد كان دائم الصلاة، متواضعا، يساعد الناس في أعمالهم، ويقول دائما إن ما لديه “عطية من الله لا فخر بها”. يقول من رآه إن ركبتيه حين يجري كانت تشبه ركبة الغزال، وإن قفزاته كانت خفيفة كأن الأرض لا تلمس قدميه. وكان إذا انطلق في الفلاة، بدا للناظرين كأنه طيف ذهبي يركض فوق الرمال، لا يمسك ولا يدرك. لم يكن “طوير الذهب” بطلا أسطوريا في رواية، بل رجلا من لحم ودم عاش بين الناس، يعمل ويبتسم ويؤمن بالله، لكن الله حباه بشيء لم يعط لغيره. رحل المرحوم جبر آل شايب التوبي الرويلي، وبقيت حكايته تروى جيلا بعد جيل، شاهدة على أن في أعماق الصحراء، حيث يولد الصبر والقوة، يمكن أن يولد أيضا من يجعل الخيال حقيقة.👀
اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.