العاصمة

الميكروويف بين نفعه ومخاطره

0

متابعة ابراهيم عمران

 

بقلم الدكتورة:هدى فريد

دكتور باحث بمدينة الأبحاث العلمية والتطبيقات التكنولوجية – برج العرب – الإسكندرية

 

 

نحو استخدام آمن مدعوم بالبحث العلمي

منذ عقود، لم يكن الميكروويف سوى مصطلح غامض في كتب الفيزياء، لا يعرفه إلا المتخصصون في المجالات العلمية الدقيقة، ولم يكن يدور في خُلد أحد أن يأتي يوم يصبح فيه الميكروويف جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للملايين حول العالم. واليوم، نعيش في عصر أصبحت فيه هذه الموجات حاضرة في مطابخنا، ومراكزنا الطبية، وشبكات اتصالاتنا، وحتى في المختبرات المتقدمة.

فأين كان العلم، وأين أصبح؟ وكيف انتقلنا من النظرية إلى التطبيق؟ وما هي حدود الأمان في ظل هذا التقدّم المتسارع؟

الميكروويف… من المعامل إلى المطابخ

في بدايات القرن العشرين، كان العلماء يستكشفون خصائص الطيف الكهرومغناطيسي، دون إدراك كامل لتطبيقاته المستقبلية. وقد تطوّرت التجارب في هذا المجال ببطء حتى اكتشف المهندس “بيرسي سبنسر” عن طريق الصدفة عام 1945 قدرة الميكروويف على تسخين الطعام، حين ذابت قطعة شوكولاتة في جيبه أثناء عمله قرب أنبوب رادار. ومن تلك اللحظة، انطلقت شرارة الثورة التكنولوجية في هذا المجال.

أُنتج أول فرن ميكروويف تجاري عام 1947، وكان ضخمًا ومكلفًا ولا يُستخدم إلا في المؤسسات الكبرى. أما اليوم، فبفضل تقدم البحث العلمي والهندسي، أصبح الميكروويف صغير الحجم، منخفض التكلفة، وسهل الاستخدام، وتحوّل إلى جهاز لا غنى عنه في معظم المنازل حول العالم.

التطبيقات الحديثة للميكروويف

لقد تجاوزت استخدامات الميكروويف مجرد تسخين الطعام، وأصبحت تدخل في مجالات عدة، منها:

• الطهي والتسخين المنزلي: يوفر الوقت والطاقة، ويُعدّ بديلاً فعالًا للأفران التقليدية.

• الطب: تُستخدم موجاته في العلاج الحراري، وتدمير الخلايا السرطانية بطريقة غير جراحية في بعض الحالات.

• الصناعة: في تجفيف الأخشاب، تسريع عمليات الإنتاج، معالجة المواد، والتعقيم.

• الاتصالات: تُعدّ البنية الأساسية للعديد من شبكات الاتصالات اللاسلكية، والرادارات، وأنظمة تحديد المواقع.

العلم والوعي: حتمية فهم المخاطر

رغم كل هذه الفوائد، فإنّ الميكروويف ليس خاليًا من التحديات والمخاطر، التي ينبغي فهمها والتعامل معها علميًّا:

1. التسريبات الإشعاعية الحرارية: يعمل فرن الميكروويف بتوليد موجات تؤدي إلى اهتزاز جزيئات الماء داخل الطعام وتسخينه، لكن في حال وجود تسرّب من باب الفرن أو خلل فني، يمكن أن تتعرض الأنسجة البشرية لهذه الإشعاعات، مما قد يسبب حروقًا حرارية أو أضرارًا داخلية يصعب رصدها فوريًّا.

2. أثر الميكروويف على مكونات الغذاء: الدراسات متباينة، إلا أن بعض الأبحاث تشير إلى أن الطهي المتكرر أو المفرط باستخدام الميكروويف قد يؤدي إلى تراجع نسبة بعض الفيتامينات الحساسة مثل فيتامين B12 أو C، وكذلك تغيّرات في البروتينات والبنية الكيميائية لبعض الأطعمة، مما قد يؤثر على قيمتها الغذائية.

3. تفاعل الموجات مع أوعية الطعام: تسخين الطعام في أوانٍ بلاستيكية غير مخصصة للميكروويف قد يؤدي إلى تسرب مركبات كيميائية خطرة مثل الـ BPA إلى الطعام، ما يُشكل تهديدًا مباشرًا للصحة على المدى الطويل.

4. حوادث الحروق والانفجارات: من الشائع أن يؤدي تسخين السوائل في الميكروويف دون تقليب إلى ما يُعرف بـ”الانفجار الفوري” عند تحريكها، مما قد يتسبب بحروق شديدة للمستخدم.

دور البحث العلمي في الوقاية والتطوير

وهنا يأتي دور البحث العلمي الذي لا يقتصر على الابتكار فحسب، بل يشمل كذلك حماية الإنسان والبيئة. فقد طوّر العلماء أدوات قياس الإشعاع المسرب، ووضعوا معايير أمان دولية، مثل حدود الإشعاع التي لا ينبغي تجاوزها والتي تفرضها جهات مثل “هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)” و”الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)”.

كذلك، ساهمت الأبحاث في تصميم أفران مزوّدة بأنظمة حماية، مثل إغلاق تلقائي عند فتح الباب، وتقنيات توزيع حراري متساوٍ تمنع تركيز الحرارة في مناطق محددة داخل الطعام، وهو ما يقلل من المخاطر الصحية.

ومن جانب آخر، يدرس الباحثون اليوم استخدام الميكروويف في معالجة المياه، وتعقيم المعدات الطبية، وتحويل النفايات إلى طاقة، ما يفتح آفاقًا واعدة في مجالات البيئة والطاقة النظيفة.

الخاتمة: بين النعمة والنقمة… الوعي هو الحل

إنّ الميكروويف بقدر ما هو اختراع عظيم يسّر حياة الإنسان، بقدر ما قد يكون مهددًا إذا أسيء استخدامه. وبين سطور الإنجاز العلمي، يجب أن نزرع ثقافة الوعي، وأن نربط بين التقدم والتدريب، وبين الابتكار والمسؤولية.

وفي ظل تسارع التقنية، يظل البحث العلمي هو البوصلة الآمنة التي تقودنا إلى الاستخدام الرشيد والمستنير، بعيدًا عن المخاطر والمفاجآت غير المحسوبة.


اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

آخر الأخبار