بعد هجوم إسرائيل على دمشق بالقرب من القصر الجمهوري بحجة حماية الدروز، وما سبقه من أحداث في الجولان، عاد الجدل حول هذه الطائفة الغامضة: من هم الدروز؟ و ما أصلهم؟ وما علاقتهم بإسرائيل؟
في أعماق الجبال الممتدة من جنوب سوريا إلى جبال الشوف في لبنان، تعيش جماعة اختارت لنفسها عبر التاريخ العزلة والانغلاق، لكنها لا تتردد في الانخراط السياسي عندما تقتضي الظروف. إنها طائفة الدروز التي نشأت في بدايات القرن الحادي عشر الميلادي في مصر، حيث أعلن بعض أتباع الخليفة الفاطمي (الحاكم بأمر الله) إيمانهم بمذهب يقوم على التوحيد العقلي والروحي، رافض للطقوس الظاهرة، مؤمن بالتقمص، ومحتكم إلى الباطن لا الظاهر في فهم النصوص الدينية.
تأسست هذه الدعوة غير المألوفة على المجتمع المصري والإسلامي آنذاك على يد (محمد بن إسماعيل الدرزي)، وسرعان ما اكتسبت طابعًا سريًا صارمًا، لدرجة أنهم لا يُقبل فيها من لم يُولد درزيًا، ولا تُفصح عن معتقداتها الدينية إلا للقلة المختارة. هذا الانغلاق الذي رسموه لأنفسهم دفعهم إلى اختيار الجبال الوعرة في (سوريا وفلسطين ولبنان) لتكون حصنًا منيعًا يحميهم من الاضطهاد ويحفظ خصوصيتهم العقائدية، خاصة بعد خروجهم من مصر.
نعم، كانت مصر هي مهد الدعوة الأولى لهم، ولكن بعد غياب الحاكم بأمر الله عام 1021م، تغير الموقف الرسمي للدولة الفاطمية، وبدأت حملة قمع شديدة ضد الدروز، الذين اعتبرهم الخلفاء اللاحقون زنادقة ومبتدعين. فهربوا من مصر تحت وطأة القتل والملاحقة، واختاروا اللجوء إلى جبال الشام، حيث أسسوا مجتمعات منغلقة تحيطها الجغرافيا، وتحميها السرية والانعزال.
ورغم انغلاقهم، لم يغيبوا عن مسرح الأحداث. ففي سوريا، برزوا كمكون وطني فاعل، تجسده ثورة (سلطان باشا الأطرش) ضد الاحتلال الفرنسي، وولاؤهم للدولة السورية، رغم تعقيدات الحرب الأهلية ومحاولات استقطابهم.
وفي لبنان، فرضوا حضورهم في السياسة والمجتمع من خلال زعامات تقليدية، أبرزها (آل جنبلاط)، الذين لعبوا أدوارًا حساسة في التوازنات الطائفية، وإن كانوا دائمًا في موقع حرج بين طوائف متنازعة.
أما تجربتهم في فلسطين، فكانت أكثر تعقيدًا وغموضًا. بعد نكبة 1948 وقيام دولة إسرائيل، فرضت التجنيد الإجباري على الدروز دون سائر العرب، في خطوة مدروسة لصناعة نموذج “الأقلية المخلصة”. وافق بعضهم على التجنيد وارتقوا في صفوف الجيش، بينما رفض آخرون ذلك، متمسكين بهويتهم العربية، ورافضين الاندماج في دولة لا تعترف بانتمائهم الحقيقي.
وتتجلى الصورة الأوضح لموقف الدروز من إسرائيل في الجولان السوري المحتل، حيث رفض معظم سكانه من الدروز حمل الجنسية الإسرائيلية منذ ضم الجولان عام 1981، وظلوا متمسكين بانتمائهم السوري رغم الإغراءات والضغوط. لم تنجح السياسات الإسرائيلية في نزع انتمائهم أو تبديل قناعاتهم، بل شهدت السنوات الأخيرة موجات احتجاج شعبي واسعة ضد مشاريع استيطانية، قابلتها إسرائيل بالقمع والاعتقالات.
ورغم المقاومة، تستمر إسرائيل في الترويج لصورة الدروز كـ”مواطنين مخلصين”، لا حبًا فيهم، بل خدمة لروايتها الدعائية أمام الغرب. فهذا ما حدث مؤخرًا؛ فهي تستخدمهم كورقة لتجميل وجه الاحتلال، بحمايتهم حتى وإن لم يكونوا في إسرائيل، وتعرض صورهم في المناصب العسكرية كدليل على “الاندماج”، بينما تمارس ضدهم في الجولان كل أشكال القهر والاضطهاد.
نعم، إنها المفارقة القاسية: فهي طائفة دينية مغلقة تُستغل في مشروع استعماري لا يعترف بأبسط حقوقها إن تمردت على مخططه.
ومع تصاعد التوترات الإقليمية التي تشهدها الساحة العربية الآن، يجد الدروز أنفسهم عند مفترق طرق. في سوريا، ما زالوا متمسكين بوطنيتهم رغم شعورهم أحيانًا بالتهميش. وفي الجولان المحتل، يقاومون بصمتهم كل محاولات الطمس والاحتواء. وفي الداخل الإسرائيلي، يتساءل الجيل الجديد عن جدوى الانخراط الدرزي في دولة لا تُنصفهم بل تتاجر بهم، ويتأملون الثمن الذي دُفع مقابل هذا “الاندماج” المزعوم، ويسألون: أهو نصرٌ لهم أم تنازل منهم؟
ورغم قلة عددهم، يظل الدروز رقمًا صعبًا في معادلة الشام. فهم حتى الآن جماعة لم تفقد توازنها رغم صعوبة الجغرافيا التي يعيشون فيها وتقلب الظروف السياسية حولهم وبهم، وحتى هذا الوقت لم تتخلَّ عن جذورها الروحية رغم كل هذه الظروف.