بقلم / محمـــــــد الدكــــــــرورى
وضح لنا الله عز وجل فى كتابه الكريم بأنه دار حوار بين نبى الله ابراهيم وبين النمرود فقال الله عز وجل فى كتابه الكريم ﴿ أَلَمْ تَرَ . إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
“يذكر تعالى مناظرةَ خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد، الذي ادَّعى لنفسه الربوبية؛ فأبطل الخليل عليه السلام دليله، وبيَّن كثرة جهله وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له طريق المحجة.
قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار: وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه: النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، قاله مجاهد .
قال مجاهد وغيره: وكان أحد ملوك الدنيا؛ فإنه قد ملَك الدنيا – فيما ذكروا – أربعةٌ: مؤمنان، وكافران؛ فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان، والكافران: النمرود وبُخْتَنصَّر.
وذكروا أن نمرود هذا استمرَّ في مُلكِه أربعمائة سنة، وكان قد طغَى وبغى، وتجبَّر وعتَا وآثر الحياة الدنيا.
ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حمَلَه الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع؛ فحاجَّ إبراهيم الخليل في ذلك، وادَّعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾.
قال قتادة، والسُّدِّيُّ، ومحمد بن إسحاق: يعني: أنه إذا أُتِيَ بالرجلين قد تحتَّم قتلُهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا، وأمات الآخر.
ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفَى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً آخر بيَّن وجود الصانع، وبطلانَ ما ادَّعاه النمرود، وانقطاعه جهرة – قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ أي: هذه الشمس مسخَّرة، كل يوم تطلع من المشرق كما سخَّرها خالقُها ومسيِّرُها وقاهرُها، وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحيي وتميت، فَأْتِ بهذه الشمس من المغرب؛ فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء، ولا يُمانَع ولا يُغالَب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كلُّ شيء، فإن كنتَ كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلستَ كما زعمتَ، وأنت تعلم – وكل أحد – أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجزُ وأقلُّ من أن تَخلُقَ بَعوضةً، أو تنتصر منها.
فبيَّن ضلاله وجهله وكَذِبَه فيما ادَّعاه، وبطلانَ ما سلكه وتبجَّح به عند جَهَلة قومه، ولم يبقَ له كلام يجيب الخليلَ به، بل انقطع وسكت؛ ولهذا قال: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
و قال صاحب الظلال رحمه الله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ ؟ إنه تعبير التشنيعِ والتفظيع، وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء.
فالفعلةُ منكرة حقًّا: أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء! وأن يدعيَ عبدٌ لنفسه ما هو من اختصاص الرب، وأن يستقِلَّ حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونَه من الله.
﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة، المعروضتان لحس الإنسان وعقله، وهما – في الوقت نفسه – السرُّ الذي يحيِّر، والذي يُلجِئُ الإدراكَ البشري إلجاءً إلى مصدر آخر غير بشري، وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق، ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء، لحلِّ هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء.
إننا لا نعرف شيئًا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة، ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات، ونحن مُلزَمون أن نَكِلَ مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القُوَى التي نعرفها على الإطلاق، قوة الله.
ومن ثَمَّ عرَّف إبراهيمُ – عليه السلام- ربَّه بالصفة التي لا يمكن أن يُشارِكَه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد، وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية، ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره، قال: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، فهو من ثَمَّ الذي يَحكُمُ ويُشرِّعُ.
﴿ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾، وهي حقيقة كونية مكرورة، كذلك تطالع الأنظار والمدارك كل يوم، ولا تتخلف مرة ولا تتأخر، وهي شاهد يخاطب الفطرة – حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئًا عن تركيب هذا الكون، ولم يتعلم شيئًا من حقائق الفلك ونظرياته – والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموِّه العقلي والثقافي والاجتماعي، لتأخذ بيدِه من الموضع الذي هو فيه، ومن ثَمَّ كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال والمراء، وكان التسليم أولى والإيمان أجدرَ، ولكن الكِبْر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر، فيَبهَتُ ويُبلِس ويتحيَّر، ولا يهديه الله إلى الحق؛ لأنه لم يتلمَّسِ الهداية، ولم يرغب في الحق، ولم يلتزم القصد والعدل: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.. فاللهم إهدنا بفضلك وكرمك فيمن هاديت يا رب العالمين …
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.