أرتشف القهوة من فنجاني القديم، وآخذ نفساً طويلاً من لفافة التبغ، لم يبق معي غيرهما.
انظرُ في الأفق البعيد أتصور احداث الماضي. يختلط الماضي بالأمس ويمتزج الضجيج بالهمس.
تتداخل صور الأشخاص وصور الأشياء لتكوّن خيالات غريبة، مفزعةً تارةً تنقبض منها النفس ومربكّةً
تارة تخلط المعقول بالحلم. تأخُذُني دوامة فكري لتغوص عميقا في دوامة مشاعري التي تعصفُ
بي اعصارا مداريّا يحطّم كلَ الأشياء، يتقاذفها كحبات رمال في عاصفة هوجاء. أو ترميني في قاع
محيطِ كي يلفظني الى الأعلى بركانا يفتّني أشلاءً، وينثرها في كل الأرجاء. وأعود لفنجاني ولفافة
تبغي اشْعرُ بهدوءِ، أحدد موقعي في العالم فمنذ عقود وشرفتي وفنجاني ولفافة التبغ قابعة هنا غارقة في الصمت.
انفث دٌخّان التبغ من فمي، تتناثر ذراته مع ذراتي يحملُها الدخّان ويتصاعد ثم يهوى، يتهادى ثم يسرع،
يتجه يمينا ويسار. تحاول ذراتي الذوبان في بوتقة محيط العالم فيأبى أن اختلط به ويأبى لي
الاستقرار. فأدُورُ أدُورُ في فضاءاته بين أبعاد الزمان وأبعاد المكان. اتنقّل معه بين المعابد المصرية،
وأنقش كلماتي على الواح بابل باللغة المسمارية، وأُحَكّم زيوس كبير الآلهة الاغريقية، وأكتب شكوى
لمنظمة العدل الدولية. يأبى الوجود ان يمزجني به ويأبى ان يتركني في شرفتي بين فنجاني ولفافة
التبغ الكوبية. كنتِ لي نقطة الدائرة التي يدور في فلَكِها الكونُ لدى الطرق الصوفية، فتحدد خطوط طولي وخطوط العرض والاتجاهات الجغرافية.
أما الآن فَقدتُ معَكِ نقطةُ الدائِرة فتشابكت افكاري وتاهت معالِم العالم واختلطت الحٌقبٌ الزمنية.
فقدتُ القدرةَ على التمييز بين الاتجاهات. أذكرُ يوما كنت أُميّزُ بين الألوان، كنتُ ارى اللونَ الأحمرَ
مشتقا من حمرة وجْنتك وكنتُ أرى اللونَ الأسودَ يتدرجُ كتموجات خصلات شَعْرُك الليلية. كنت أعرفُ
ان البحرَ عميقا من صفاء عينيك العسليّة. كنتُ أُميّزُ طلوع الفجر كإطلالتك بقميصك الأبيض في الأيام
الصيفية. كنتُ أقرأُ طالِعي في جبهتك والأحداث المستقبلية. كنتُ اشْعرُ باحتواء وسادتي كما يحتويني صدرك أجولٌ فيه بين هضاب وقمم بركانية. كنتِ خريطتي التي تحددُ موقعي بين المجرات والأجرام
السماوية. وكنتِ قاموسي الذي يفك طلاسم العالم فأفهم كلّ اللغات الكونية. كنتِ ايقاعي الذي
أنظر خلفي فلا أجد خطوط، ولا أترك أثاراً مرئية، تتحول أثاري لنقاط منفصلة لا ترسم خطا بيانيا، فقد ضاعت مني المحاور ونقطة البداية والمقاييس الهندسية.
اسمعهم يقولون جاء نيسان وتفتحت زهور الاقحوان على الاغصان. قرأتُ في الصحف، قد عاد أبريل
وشرع الحمام في الهديل متراقصا رقصات الغزل البيْنِية. يقولون وهم يجهلون معنى الربيع وقصص
الحب الأسطورية. لم يروا الربيع في اشراقة عينيك وكيف تمنحي العصافير غناءها والزهور رحيقها،
وكيف تعْرف منك النبتة اتجاه الشمس. قرأتهم يصفون أفروديت إلهة الحب وأن جمالها فوق الوصف.
وأنها تصحو من مرقدها كل عام مرة فتملأ الكون عشقا وتنقش الورد حمرة في خدود البنات وترسم
قوام العذارى الفاتنات. لم يقرأ أحد منهم النقوش علي سطح الهرم ليعلم أنك أنتِ من توقظين
أفروديت وأنتِ من يرسل معها بعض من جمالك وبعض من حبك وبعض من فتنتك لتوزعها على
بنات العالم وعلى الزهور وفراشات الحدائق.
أعلم أنك هنالك عالقة في آلة الزمن تائهة بين الأكوان المتوازية حيث يتغير معنى الزمان ومدلول
المكان. أعلم أنكِ حين تركتني انفصلتْ عنكِ كل مؤشرات الحياة وانطفأت أجهزة التحكم فصرتِ
تفتشين الكون عني وتسألين كل البنات. انفث دخان التبغ ليملأ سقف الغرفة، ويطير في انحاء
المدينة يبحث عنك، فكم داعَب شَعرَكِ وكم أخرجَ من عينيك حبات الماس. أتعلمين أنّى كنتُ ارسله
عمدا يداعب عينيك ويلامس جدائل شَعرك الممتدة من حيث نكون وحتى زمن الطوفان.
لن أقول أَنّى اشتقتُ اليك أو اشتقتُ لصوتك يغمرني أو عينيك تطهرني او حتى لصدرك يجمع اشلائي. نعم لم اشتاق اليكِ فلم يبق بي شيئا كي اشتاق به بعدما تبخّرت الأحلام وانسابت حبات العٌمْر. فقط اشتقتُ لبعضِ مني، اشتقتُ لبصرِ اري به الألوان وقلبِ يشعرُ بالقلق حينا ويشعر بالأمان. اشتقتُ لوسادة تحتويني اخلدٌ اليها أحط امتعتي الثقيلة واتمدد فيها مستسلما، أُسلّم كل اسلحتي، أُطفئ مفتاح المحرّك، تتلاشي كل الأصوات وتسكن كل الأشياء وأغمض عيني حتى أرى وجهك مشرقا في الأفق فأسارع اليكِ، اقذف نفسي داخل عينيك، أذوب فيك، وتختلط ذراتي بذراتك، نتحد سويا مع الكون الأعظم. فُرَاداً لا نملك الشفرة ومعا فقط نملك مفتاح الدخول. عندها فقط، ترسو سفينتي وأرتشف اخر رشفة من فنجاني وأطفئ لفافة التبغ.