خالد جعفر يسلط الضوء علي قاهرة نجيب محفوظ للمخرجة أميرة الفقي
علاء حمدي
سلط الناقد الأدبي والكاتب الكبير/ خالد جعفر الضوء على قاهرة نجيب محفوظ للمخرجة أميرة الفقي حيث قال : مع هذا الثراء الثقافي والفكري الذي ملأ كل جنبات وفعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحالية ، كنت حريصاً على ألا تفوتني دعوة الفنانة المخرجة المبدعة أميرة الفقي لحضور أمسية عرض فيلمها الوثائقي (قاهرة نجيب محفوظ) بقاعة السينما ، والذي أبدعت فيه خلال خمسة وأربعين دقيقة – مدة عرض الفيلم -في رسم عبقرية وفلسفة المكان عند نجيب محفوظ .
وإذا كانت فلسفة العقول تشكلها المدارك ، وفلسفة القلوب تشكلها العواطف والأحاسيس ،فإن فلسفة المكان يشكلها البشر، فكان هذا العمل الإبداعي الذي يعد بمثابة المفتاح السحري الذي ملكت أميرة الفقي نسخته الأصلية في عالم التوثيق الفني للسينما التسجيلية والذي فتحت لنا به باباً جديداً ورؤية فنية لعالم وعبقرية المكان عند نجيب محفوظ .
اختارت المخرجة الاتجاه السيمفوني الذي يشبه الموسيقى في عرض فكرتها معتمدة على عنصر الحركة في استخدام الكاميرا والإضاءة بذكاء فنانة متمكنة من عناصر أدواتها ، فحولت المكان من حالة الجمود والثبات إلى حركة أشبه بمسرح يعرض فنا حركيا مع إيقاع موسيقي لفن الباليه . صورت أميرة بحسها الفني وزادها الثقافي وخلفيتها الإبداعية هذا العالم من الجمالية وقاهرة المعز . ذلك المكان الذي تملك كل خلجة من خلجات نجيب محفوظ وانعكس ذلك على إبداعه الروائي ،واستطاعت أن تتحكم في حركة وزوايا الكاميرا بمهارة عاشق للمكان ، فدارت على كل درب ، وكل شارع ، وكل حارة وزقاق ،ومع كل مسجد ، وكل مئذنة ، وصنعت منها حكايات مرئية تشبه حكايات نجيب محفوظ ، وكأنها تثبت لك وتؤصل مقولة جمال حمدان : المكان هو ظل الإنسان على الأرض .
بدأت المخرجة الفيلم الوثائقي بلقطات أرشيفية وفوتوغرافية للمراحل العمرية لنجيب محفوظ يصاحبها تعليق رائع وكلمات بليغة محكمة بصوت راو مبدع صوتا وإلقاء ، ثم نقلتنا إلي لقطة تسجيلية مختارة بعناية وذكاء فني شديد في حوار تلفزيوني قديم لطارق حبيب مع نجيب محفوظ عندما سأله لو رسموالك صورة يا أستاذ نجيب تحب تكون الخلفية إيه ؟ قال : مسجد قلاوون أو عطفة قرمز . حالة من الانصهار في عبقرية المكان ، فنجيب محفوظ صنيعة هذا المكان الذي ولد فيه في البيت رقم 8 درب قرمز . ومن مكان الميلاد نقلتنا المخرجة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، ومن حارة درب قرمز إلى ستوكهولم ومشهد ملك السويد وهو يسلم ابنتي نجيب محفوظ جائزة نوبل في الأدب . هذه المفارقة والنقلة النوعية التي نقلتنا إليها المخرجة تدل على وعي فني وحس إبداعي لا يدركه إلا فنان قادر ومتمكن .
تنقلت كاميرا أميرة الفقي وهي تدور حول أغلفة روايات نجيب محفوظ وكأنها توثق وترصد لنا هذا الكم الهائل من إبداعات هذا الأديب العالمي وهي فخورة وتتباهى بعشقها لهذا الوطن ، ونراها في كل مشهد وكل لقطة وكأنها تصرخ بأعلى صوت لها وتقول : أنا مصرية . تتحرك الكاميرا بثقة ورقة وكأنها ريشة في يد فنان لترسم أجمل صورة من صور الطبيعة التي لا تتكرر مرتين ، عندما تصعد بعينيك مع حركة الكاميرا وروعة تكويناته ، وتحولت عدسات الكاميرا إلى عيون عاشق يتطلع إلى معشوقته مخترقا تلك الفتحات الصغيرة في مشربيتها حتى يستطيع أن يستجمع صورتها وذلك عندما رصدت مئذنة مسجد قلاوون ومشربيات بيت السحيمي وهيتذوب عشقا وغراما في أشعة الشمس ، في لقطة تستدل بها الفنانة المخرجة على عبقرية هذا المكان الذي يبدأ منه النور والدفء ويبعث بهمن قاهرة المعز أرض الشمس المشرقة إلى غيوم السحب وبرد وجليد السويد وعاصمتها ستوكهولم ،حيث مقر تسليم جائزة نوبل .
ومع الصوت الرخيم الواثق وتعليق أستاذنا وناقدنا الأدبي الكبير الدكتور صلاح فضل تصاحبه نغمات أوتار عود يغرد لحنا جميلا لأم كلثوم أنشودة الشرق ونغمها الجميل ، وصور ومشاهد حية لنجيب محفوظ، هذا الكوكتيل الرائع الذي جمعت فيه أميرة كل فنون الإبداع . حيث الكلمة والصوت والصورة والموسيقى في تناغم وتآلف عجيب ومدهش . كاميرا أميرة الفقي ذات عين ثاقبة تحمل ثقافة فنانة واعية ،استطاعت أن تخترق عالم المكان عند نجيب محفوظ وقاهرة المعز بالصوت والصورة ،ورصدت عالم الجمال المعماري القديم ، في البيوت والشوارع والحارات والمساجد والمآذن والأحجار القديمة والمشربيات ..
هنا نتوقف عند توثيق فلسفة المكان عند نجيب محفوظ الذي جعله بطلا في معظم أعماله الأدبية ، واستطاع أن يحوله إلي كائن حي . حين استلهمت المخرجة بعض لقطات أفلام نجيب محفوظ وألمحت إلي مدلولاتها برؤية فنان يعرف كيف يختار مشاهده . لقطة سطوح منزل السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية اختارته لكي تجعله رمزاً للحب والحرية ، ذلك المكان الذي يعلن فيه فهمي قصة حبه لابنة الجيران بعيداً عن قيود المجتمع ، وهو المكان الذي كانت تتنفس فيه أمينة الحرية حين تريد الفكاك والهروب من قهر وقيود زوجها السيد أحمد عبد الجواد بحجة إطعام الطيور التي كانت تربيها فوق السطوح .. السطوح ذلك البراح الذي اختارته المخرجة بذكاء فني دقيق .
وانطلقت بنا كاميرا أميرة الفقي إلى عالم العوامة في ثرثرة فوق النيل ، ذلك المكان الذي جمع نماذج مختلفة من أوساط المجتمع المصري والتي خرجت عن كل ضوابط المجتمع وقيمه بحكم الظروف السياسية والاجتماعية .. العوامة ذلك المكان الخشبي الذي يطفو على سطح ماء النيل ويفتقد كثيراً إلى دعائم كدعائم وأسس ، اختارته المخرجة لترمز به إلى مصر في تلك الفترة وحالة التخدير التي كان يعيشها أهل العوامة ،وكانت نذيرا بحدوث كارثة تلحق بالوطن آنذاك . أميرة الفقي ابنة هذا الجيل الذي أثبت أن مصر ستبقى دائماً ولادة بالمبدعين والعاشقين لكل مكان فيها ، وستظل ذلك المعين الذي لا ينضب من الخير الكثير والذي يمنح كل جيل من عطائه وإبداعه وفنه أميرة الفقي فنانة مبدعة عشقت مصر كما عشقها نجيب محفوظ .