العاصمة

حكاية الفتاة ناهناه الفتاة الأفرو أسيوية

0

إيمان العادلى

لم تكن ناهناه هي الطفلة الوحيدة التي نجت وشبت مختبئة في بيت جدها؛ فقد

نجا حوالي 50 طفلًا آخرين من القتل، يعيشون الآن في كاتانغا بلا أوراق رسمية،

يجتمعون في إحدى الصيدليات ويحاولون إعادة ترتيب حياتهم، وذلك من خلال رفع

أصواتهم إلى كل من الحكومة الكونغولية والحكومة اليابانية. ولجأ الناجون إلى

أحد المحامين أملًا في رفع دعوة إلى كلا الحكومتين، وذلك من أجل فتح تحقيق

رسمي في حوادث القتل السابقة، واستخراج أوراق رسمية تمكنهم من

استكمال حياتهم.

«كان جدي يقول إن بقيتم في المدينة سيقتلوكم، ولهذا رحلنا إلى الريف»

كانت منهم ناهناه ممن نجحوا في الهروبِ من الموتِ أو غافلوه وهم حديثو الولادة

بمساعدة ذويهم فتاة أفرو- آسيوية بلا شهادة ميلادٍ تثبت أصلها أو وجودها على

قيد الحياة من الأساس كانت ناهناه وحيدة ساعدها جدها في البقاء على قيد

الحياة صغيرة وذلك عن طريق الهروب إلى الريف

إذن ما هى القصة وراء ناهناه ؟

في سبعينيات القرن الماضي، كانت دولة الكونغو منبعًا للثرواتِ المدفونة تحت

الأرض، وكان التعدين يجري على تلك الأرض الأفريقية من خلال عمال مناجم

يابانيين، جاؤوا من بلادهم البعيدة بحثًا عن النحاس والكوبالت. وفي مقاطعة

كاتانغا الغنية بالمعادن، عاش الرجال اليابانيون لسنواتٍ، واختلطوا بأهلها.

فكونوا صداقاتٍ وأحيانًا عائلات. ونتج عن هذا الاختلاط بالأرض عرق جديد أطلق

عليه العرق «الأفرو- آسيوي»، إلا أن الكثير من أبناء هذا العرق لم يروا النور منذ يوم

ولادتهم؛ فما الذي حدث لأبناء اليابانيين من الأفارقة؟

معسكرات للرجال فقط
كانت أعمال التعدين تقع في جنوب شرق

الكونغو، تحديدًا في مقاطعة كاتانغا الغنية بالثروات المعدنية. والتي كانت مقصدًا

للكثير من المستثمرين الأجانب. في اليوم الحاضر تستطيع أن ترى الكثير من

شاحنات النقل المستعدة لنقل النحاس والكوبالت بريًّا من كاتانغا إلى جنوب

أفريقيا، استعدادًا لنقلها إلى الصين؛ حيث يدير الصينيون اليوم أعمال التعدين في

المقاطعة، إلا أنه في سبعينيات القرن الماضي، كانت الشركات اليابانية هي

المسؤولة عن التعدين في المنطقة، وقد عكفت على نقل رجالها من عمال المناجم

اليابانيين إلى الأراضي الأفريقية.
تستطيع أن ترى في التقرير الوثائقي الذي

أعدته «فرانس 24»، كيف أقامت الشركات اليابانية معسكراتٍ مغلقة. كان هدفها

توفير مكان لإقامة العمال اليابانيين. مساحةً شاسعة ذات قواعد وقوانين، من

يخالفها يتعرض للترحيل، ويجبر على العودة إلى اليابان. كانت القوانين تعمل

على تنظيم الحياة داخل المعسكر، مواعيد للطعام والشراب، المحافظة على سير

العمل، كما يمنع منعًا باتًّا اصطحاب النساء، أو جلبهن إلى المعسكر.

في تلك الآونة جلبت الشركات اليابانية أكثر من ألف عامل. سكنوا هذه التجمعات

السكنية، يقول اليابانيون، إنهم على مدار عقود دعموا وساعدوا في بناء البنية

التحتية لجمهورية الكونغو الديمقراطية، بما في ذلك إمدادات المياه، والخدمات

الصحية، وتنمية الموارد البشرية، كما قدمت اليابان خبرتها لمشاريع رصد

البراكين في البلاد، وذلك حتى عام 1991، عندما انتهى العمل الياباني نتيجة للحربِ

الأهلية في المنطقة، فهل كانت تلك هي الحقيقة كاملة؟

في 13 يوليو (تموز) من عام 1970، نشرت«نيويورك تايمز» أخبارًا عن الآمال

الكبيرة لليابانيين من خلال الاستثمار في الكونغو؛ حيث اتجهت العديد من الشركات

اليابانية إلى مجال التعدين داخل تلك الدولة الأفريقية، مُعلنة خطتها لإنتاج

ما لا يقل عن 54 ألف طن من النحاس سنويًّا؛ كان ذلك جزءًا من مشاريع التعاون

الاقتصادي بين اليابان وجمهورية الكونغو الديمقراطية. نتيجة لذلك، جلبت الشركات

على مدار 10 سنوات قضتها في المنطقة، حوالي ألف عامل من الذكور، بلا عائلاتهم

، أقاموا معًا في معسكراتٍ خالية من النساء.

العامل كان يقضي كثيرًا من الوقت في العمل على المشروع، مما أجبر الكثير منهم

على التفاعل الاجتماعي مع السكان الأصليين، ولعدمِ وجود طائفة يابانية

يستطيعون الاختلاط بنسائها، اتخذ العمال لأنفسهم زوجات أفريقيات. يقول أحد

الأفارقة الذين عملوا في تلك الفترة إلى جانب اليابانيين: «كانت القواعد داخل

المعسكرات صارمة، ولهذا لم يكن هناك شهود على جلب نساء إلى داخل

المعسكر»، إلا أن ذلك لم يثنهم عن الاختلاط خارج مكان العمل والمعيشة؛

فخرجوا إلى المدينة بحثًا عن بعض العلاقات الحميمية.

طبيب ياباني يتولى عمليات القتل
في مقاطعة كاتانغا، وداخل مبنى

المستشفى المحلي الخاص بالمنجم، عمل أحد الأطباء اليابانيين في فترة

السبعينيات، من أجل خدمة الجالية اليابانية المقيمة، كما قدم الطبيب

الخدمات الطبية إلى أهالي المقاطعة. كانت هناك ممرضة يابانية ترافق الطبيب دائمًا،

هكذا يشير الأهالي ممن يترددون على المستشفى، إلا أن هناك خوفًا ينتابهم

تجاه التوجه إلى الطبيب، خاصةً في حالات الولادة.

أقاويل تناقلتها الألسن في تلك المقاطعة الصغيرة، حول الطبيب الذي يسمم

الأطفال الرضع حديثي الولادة، ذوي العرق المختلط، وذلك بمساعدة ممرضته

المرافقة. يتجاذب الطبيب أطراف الحديث مع الأب الياباني، ومن ثم، يمرض الطفل

ويموت قبل انقضاء 24 ساعة. تقول الأمهات إن أطفالهن كانوا بصحةٍ جيدة

قبل الذهاب إلى المستشفى المحلي، إحداهن تقول إنها تركت الطفل مع والده

بضع دقائق، وذهبت طلبًا للماء، بعد عودتها، بدأت تظهر على الطفل علامات الإعياء،

لم تشرق عليه شمس اليوم التالي.
في الوثائقي، تحكي النسوة قصصًا

مأساوية عن وفاة أطفالهن، تستطيع أن ترى شواهد قبورهم المهملة بين قبور

كثيرة، خطت عليها أسماؤهم الأولى، وقد اقترنت باسم أب ياباني. تقول كل واحدة

منهن على حِدَة: «لم يمت سوى طفلي الياباني». جميعهن تزوجن بعد الرجل

الياباني، وأنجبت بعضهن من خمسة إلى ثمانية أطفال، بصحةٍ جيدة، إلا أن

أطفالهن من الياباني، اشتركوا جميعًا في شيء واحد، فقد توفوا حديثي الولادة

بعد مرض لا تعرف الأمهات كنهه.
كاياما ميولا، كان هذا هو اسم طفل إيفون،

مزارعة، وإحدى الأمهات المكلومات، تقول إن الطبيب الياباني أخذ الطفل منها

داخل المستشفى المحلي، إذ بقيت هي خارج حجرة الكشف. في اليوم التالي

مات الطفل. في البداية لم تشك النساء في رواية موت أطفالهن، إذ ظنن أن المرض

قد سرق أعمارهم، إلا أن تكرار حادثة الموت بالطريقة نفسها في كل مرة يولد

فيها طفل «أفرو- آسيوي»، جعل النسوة يدركن حقيقة الأمر.

يقول أحد العاملين في المناجم، إن الرجال اليابانيين كانوا يخشون من ولادة طفل ذي

عرق مختلط مع النساء الكونغوليات، فقالوا له: «لا نستطيع الاحتفاظ بالطفل»؛

وعللوا ذلك بصعوبة القوانين اليابانية، وعدم تقبلها للأعراق المختلطة، ولهذا كان

عليهم التخلص من أطفالهم. يقول الرجل إن العرق المختلط كان يجلب للياباني العار

في بلاده، إضافةً إلى أن بعض الرجال كان لديهم بالفعل عائلات وأطفال في اليابان،

وقبل أن ينهوا أعمالهم ويشدوا الرحال عائدين إلى بلدهم سعوا للتحرر من كل

ما يربطهم بالأرض السمراء، حتى وإن كان هذا الرابط ابنًا أنجبوه.

يقول الممرض المتقاعد، سيباستيان كاوزي، إن فريق التمريض قد لاحظ تزايدًا

في أعداد الأطفال الموتى، من ذوي الأعراق المختلطة، عندها تساءلوا عن

السبب، ويضيف: «سمعنا أقاويل عن أن الرجال اليابانيين لا يريدون أن يرحلوا

ويتركوا أبناءهم من النساء الكونغوليات هنا»، يشير كاوزي إلى أن الشائعات كلها

اتجهت نحو تسميم الأطفال.
«إن بقيتم في المدينة سيقتلوكم»

كانت حوادث موت أطفال النساء الكونغوليات من رجالٍ يابانيين، من

المسكوت عنه؛ فلم تتجه أي جهة حكومية كانت أو حقوقية في ذلك الوقت، للتحقيق

في أسباب موت الأطفالِ. حتى أصبح الأمر يشار إليه كشائعاتٍ وأقاويل، لم يجر

التحقق منها. ويبدو أن الجهة الإعلامية الوحيدة التي تولت متابعة الأمر كانت

«فرانس 24»، من خلال تقريرها المصور مع أمهات الأطفال، والذي جمع شهادات

من عايشوا تلك الفترة، وذلك في مارس من عام 2010.

اتجهت كاميرا الوثائقي فيما بعد للأطفال الناجين، هؤلاء ممن نجحوا في الهروبِ من

الموتِ، أو غافلوه وهم حديثو الولادة بمساعدة

تقول ناهناه إنها عاشت حياتها كلها في الريف خوفًا من العودة إلى مدينة كاتانغا؛

فقد حذرها جدها إن وجدها اليابانيين سيقتلوها. كان ذلك قبل أن يرحل رجال

المناجم إلى بلادهم، الآن تبحث ناهناه عن هويتها، بين من يشبهونها من الأفرو-

آسيويين. إلا أن رحلة البحث عن الهوية شاقة، وحتى الآن لم يتلق هؤلاء الناجون

أي رد من الحكومة اليابانية.
خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن

الماضي، اضطرت النساء الكونغوليات للهرب مع أبنائهن من ذوي الدم الياباني،

خوفًا من فقدانهم. حينها ابتعدت النساء عن المستشفى المحلي الخاص بالمنجم،

بعدما ازدادت الشائعات حول تورط العاملين فيه في حوادث قتل الأطفال.

ونتيجة لذلك لم تستطع الأمهات تسجيل أبنائهن لدى الدولة، أو استخراج أي أوراق

رسمية خاصة بهم، فقد كان المستشفى المحلي هو المكان الموكل بذلك. إذ يقول

أحد الناجين: «الأمر يشبه وكأننا لم نولد».
شكل الأبناء رابطة ضمت الناجين من

حملة التطهير العرقي التي شنها آباؤهم من اليابانيين، أطلقوا عليها اسم

«Katanga Infanticide» أو «موءودي كاتانغا»، وذلك لمتابعة قضيتهم. عن ذلك

يقولون إن حصر أعداد الناجين غير ممكن؛ نظرًا إلى عدم وجود سجلات، إلا أنهم

تمكنوا من جمع 50 شخصًا عرفوا أنهم أفرو- آسيويون من أباءٍ يابانيين.

يقول المحامي، مويز شوكوي إنه لا يملك شيئًا من أجل مساعدة هؤلاء الناجين

سوى تكوين لجنة برلمانية للتحقيق في الأمر. في النهاية لم تتوصل اللجنة إلى أي

نتيجة تذكر. يشير الكونغوليون بيقين إلى أن الطبيب الياباني وطاقمه قد مارسوا ه

النوع من القتل ببراعة، وأن الآباء قد نجحوا في قطع كل ذرية لهم على الأرض

السمراء، إلا أن المجتمع الدولي لم يجر حتى الآن تحقيقًا نزيهًا للبحثِ في أسبابِ

موت هؤلاء الأطفال.

اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

آخر الأخبار