ثلاثية الأديبة ريم أبو عيد تبرز ترنيمة عشق في حب الإسكندرية
قال الكاتب والناقد الادبي خالد جعفر :الإسكندرية
ليست مجرد مدينة جميلة تعشقها العيون ، وتهفو إليها القلوب ، ولكنها تاريخ طويل ، ومجد تليد ، وحضارة أزمان .. عشقها المؤرخون والزوار من الإغريق والرومان والعرب .. وإذا كانت روما عاصمة الحكم والسياسية في الزمن القديم إلا أن الإسكندرية كانت عاصمة العلم والثقافة والفكر والفلسفة ومهد العلوم الإنسانية كلها .. كانت قبلة يطرق أبوابها كل أطياف البشر وكل جنسيات الدنيا ويوجهون بوصلتهم وأشرعتهم نحوها طلبا للعلم .
كتب عنها الشعراء والمفكرون والعلماء ، وأبدعوا في كل فنون العلم والحياة ، فكانت أشبه بالجميلة الملهمة ، يقدمون مهرها علما وفكرا وثقافة وإبداعا.
في مكتبتها العريقة – أول مركز علمي في تاريخ البشرية – كشف فيه العلماء عن طبيعة هذا الكون وتأملوا فلسفة الحياة والطبيعة والوجود .. هنا عاش أفلاطون وإقليدس وجالينوس . مدينة عمرها من عمر هذا الكون ، كانت ومازالت ملهمة لعشاقها والمنهل العذب للحضارة الإنسانية .
وكما كانت هيباتيا ابنة الإسكندرية أول امرأة عرفها التاريخ تخصصت في تدريس الفلسفة الأفلاطونية ، ولمعت في علوم الرياضيات وعلوم الفلك ، تهل علينا الأديبة والكاتبة المبدعة ريم أبو عيد في مطلع القرن الواحد والعشرين تستكمل الرسالة الإنسانية وترصد لنا رواياتها الثلاثة عن الإسكندرية
متروبول . سان ستيفانو . ستانلي
1 – متروبول
أنشودة الزمان والمكان
من وحي الغرفة 309 بهذا الفندق العريق الذى يطل على بحر الإسكندرية – بحر العشق والجمال – بدأت رحلتها الإبداعية في نسج هذا العمل الروائي والذى برعت فيه الكاتبة في أن تحكم قبضتها ، وأن تسيطر على قلمها بذكاء شديد حتى لا ينفرط عقد السرد .
تدور أحداث الرواية في حقبة زمنية مليئة بالأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية في منتصف القرن العشرين الأول ، حيث صراع الحرب العالمية الثانية والذي انعكست على صراع الأحداث فأثرت على مجريات الأمور وشخصيات الرواية .. فتظهر شخصية عمر بطل الرواية والذي عاش حالة من الاضطراب النفسي الناتج عن فراغه العاطفي وحيرته الدائمة في البحث عمن يكمل الناقص عنده .. وانطلق أيضاً هذا الصراع إلى نفس سارة بطلة الرواية والتي ظلت تبحث عن روح تشبه روح ( ماريو جياني ) الفنان الإيطالي الشهير الذى أحبته .
برعت الكاتبة ريم أبو عيد في روايتها في رصد الحالة النفسية والاجتماعية لشخوص روايتها بلغة راقية متزنة بعدت فيها عن التعقيد والغموض الذي قد يخرج القارئ عن معايشة الأحداث أو الخروج عن الحبكة الدرامية ، وتناسبت لغة الرواية الراقية مع ثقافة الشخوص الأرستقراطية .
2 – سان ستيفانو
الرواية الثانية ، أو الجزء الثاني الذى يحمل اسم أحد الأحياء الراقية في الإسكندرية .
هذه الرواية جمعت فيها الكاتبة كل ملامح الإنسانية ووضعتها في جعبة واحدة في ذلك المكان العبقري الذى اختير بعناية ليجمع كل نسمات بحر الإسكندرية وفي زمن يحمل كل معاني الرومانسية بعيداً عن الأحداث السياسية .
غردت الكاتبة ريم أبو عيد في وصف كل تفاصيل أحداث الزمان والمكان والذي ظلت الإسكندرية تحمل كل قسماته الجميلة إلى أن طالته يد الإهمال ومعاول هدم الجمال واستبداله بعشوائية القبح ، وكأنك تشعر بدموع الكاتبة تتساقط ألما وحزنا على صفحات الرواية وأنت تقرأ سطورها .
ولكن سرعان ما استجمعت خطوط قلمها واستكملت ما بدأته في الجزء الأول (متروبول) .. إنها الروح الممتدة التي لم تفصلها أغلفة ولا نهايات .. سرد رائع محكم البناء وبنفس حالة اللغة الراقية التي احترمت فيها شعور القارئ
استمرت حالة العشق مع الكاتبة في (سان ستيفانو) فهي غارقة في بحر من العشق بين الزمان والمكان وبين الماضي والحاضر ومع هذه الحالة يظهر الصراع الخفي داخل الرواية بين الثقافات بحكم العادات والتقاليد المختلفة باختلاف ثقافة الشخوص
ورغم البعاد فإن الكل يعاوده الأمل في الوطن حيث مركزية القرار والمكان .. وهنا نجد أن الكاتبة رصدت حالة مصرية متفردة في الجينات المصرية جينات العشق للوطن مهما كان زمن الاغتراب،
حالة لا يدركها إلا العاشقون للمكان بكل تفاصيله .
3 – ستانلي
عودة إلى الدفء لا تجده إلا داخل حدود مصر الجغرافية .. حي ستانلي أحد أشهر الأحياء الراقية في مدينة الإسكندرية ، كان في بداية العشرينيات من القرن الماضي تقطنه جنسيات مختلفة من الإنجليز واليونانيين والأرمن والفرنسيين ومهاجري الشام ، وعلى شاطئ هذا الحي الجميل توافد نجوم السينما والمجتمع في الزمن الجميل ، كما حظى هذا المكان بزيارة الكاتبة الإنجليزية (أجاثا كريستي)
هنا تعاود الكاتبة إلى استكمال حالة العشق في أحداث الرواية وتظهر حالة الارتداد الذي عاشته (سارة) بطلة الرواية مع (يحيى) الذى أغرقها في عشق الإسكندرية وبحر غرامها ، ذلك الخيط الممتد في الثلاثية والروح المستمرة وكأنها تكتب بإلهام الروح ، ونلمح بريق هذا في التضمين الذي رأيناه في اختيار عنوان الكتاب الذى تقرأه بطلة الرواية (توأم الروح) وكذلك لهفة روحها عند رؤية قطعة أثرية مصرية في متاحف لندن . تجذبها مغناطيسية العشق للوطن .
لم تخف ريم أبو عيد إحساسها الوطني في أحداث رواية ستانلي (الجزء الثالث) من الثلاثية وظهرت مصريتها وانتماؤها الوطني برصد مواقف البطولة للمصريين وذلك عندما طعن رجل مالطي رجلا مصريا عدة طعنات حتى أرداه قتيلاً .
وتسللت بنا الكاتبة داخل الأحداث إلى وحدة ونسيج عنصري الأمة في ثوب مصري واحد وأشارت من خلال الحوارات إلى أن الديانات السماوية بريئة من الصراع والعنصرية وأن الكراهية والخلاف من صنع البشر .
الزمن الممتد مع المكان سيطر على أحداث الرواية ونلمح ذلك في تلك الصورة التي رصدتها الكاتبة عندما انتقلت أسرة صادق من القاهرة إلى الإسكندرية وكانت هذه هي المرة الأولى ل (جميلة ) زوجته التي تزور فيها المدينة ، انبهرت بكل شيء فيها . البحر، الشوارع ، البنايات ، وذلك التنوع الغريب لسكانها والذي لم تعهده في حي الحسين .. كانت الإسكندرية بالنسبة لها أشبه بكون بأكمله ، وزادها هذا الحب ذلك البريق الذى كانت تراه في عين صادق وهو يتحدث عنها وكأنه شاعر متيم يروي قصيدة عشق في محبوبته.
ريم أبو عيد روائية من طراز فريد في روعة الإبداع . متمكنة من أدواتها في العرض الروائي ، قادرة بأسلوبها أن تجعلك وأنت في القرن الواحد والعشرين تملك آلة الزمن وتعود بها إلى القرن الماضي ، وربما تكون واحداً من أبطال روايتها إن لم تكن جميعهم .
ثلاثية ريم أبو عيد كسرت قيود الزمن فعشنا معها في الأحداث ، وكأن صفحاتها مرايا تعكس لك الماضي بكل صوره وتفاصيله ، وهى بارعة في التنوع داخل الأحداث تجذبك جذب العاشق للمعشوق . تعرض لك التاريخ في شكل رواية ، أو قل : الرواية في شكل تاريخ