وفي إحدى السيارات قريباً من الميناء جلسنا وهنأني على تسلمي جواز سفري وفوجئت به يخرج من جيبه لفة نقود قلت له ما هذا قال خمسة الاف استرليني راتب شهر مقدماً وطلب مني أن أستقل القطار من كيلي إلى بريمن.
وهناك ستجد في مواجهة محطة القطار فندق كولومبس وجناحاً محجوزاً باسم مسيو عبدالرحمن انتظرني هناك ودعني ابراهام وخرجت ابحث عن سيارة تصحبني لمحطة القطار فوجدت سائق تاكسي يقف أمامي ويسألني عن وجهتي فقلت إلى محطة القطار فعاد وسألني إلى أين ستسافر قلت له إلى بريمن فقال ماذا لو أوصلتك مقابل مائة دولار وكنت أعرف أن تذكرة القطار قيمتها 120 دولارا.
فوافقت وفي الطريق راح يدعوني على مشروبات ومأكولات بأكثر من مائة دولار ولم يكن هناك أدنى شك أن هذا السائق تابع لأبراهام وصلت الفندق وسألت عن الجناح المحجوز لي باسم مسيو عبدالرحمن, فاصطحبني عامل الفندق إلى جناحي وإذا بي لا أجد أي أثاث وقبل ان أبدي دهشتي وجدت العامل يمسك بريموت كنترول ويقوم باخراج الاثاث من الحائط رغم انبهاري الشديد إلا أن التوتر كان مسيطرا على كل حواسي من هذا المجهول الذي ينتظرني وعدم تمكني من الفكاك مما وقعت فيه في اليوم التالي استيقظت على طرق ابراهام وجاك على باب غرفتي ومعهما العامل يحمل ما لذ وطاب من طعام .. فاستقبلتهما بشعور غريب جداً ولكنني حاولت جاهدا أن أكون طبيعياً ورحنا نتناول الافطار ولم أستطع منع نفسي من الشرود الذي قطعه جاك بقوله بالعربية الركيكة: (عشان يبقى فيه عيش وملح) رغما عني لم أستطع التجاوب معه .. بل ذهبت بفكري الى السويس حيث القتلى والخراب والدمار ووجدتني اقول في نفسي عيش وملح معكم يا سفاحين! كيف!!
ومرة اخرى يقطع شرودي ابراهام الذي بادرني بالقول: لابد أنك تفتقد الاسرة وهنا افقت وخشية ان يقرأ احدهما افكاري قلت له متصنعا الاسى: فعلا وحشوني قوي فهذه اول مرة ابعد عنهم فتدخل جاك قائلا: سوف تراهم يا هوان, وقبل ان ابدي دهشتي او اتساءل كيف اكمل قائلا: انت تعرف اننا نمتلك شركة للحديد والصلب ونرغب في افتتاح فرع لها في مصر وستتولى انت ادارته, نريدك ان تفتح مكتبا في ارقى شوارع القاهرة بطاقم سكرتارية يجيد اللغات كما تعلم فان الراتب الشهري خمسة الاف استرليني ومصاريف للمكتب ألف استرليني للعام كله وكنت انتظر منهما الافصاح عن حقيقتهما, ولكن الذي حدث انهما لهم يعطياني فرصة لمجرد التعليق اذ راحا يتكلمان بشكل متواصل كل واحد يلتقط من الاخر الكلمة ويكمل فبعدما تحدث جاك عن مكتب القاهرة تدخل ابراهام قائلا هناك العديد من السفن المحتجزة في البحيرات سيتم بيعها في مزاد علني عالمي نريد كل شيء عن هذه السفن, الاطوال والاحجام, وما تقوم بشحنه وكل التفاصيل الخاصة بها لاننا ننوي الدخول في المزاد وشراءها.
والتقط جاك الكلمة مشيرا الى حقيبه وقال: في هذه الحقيبة (185) الف دولار مصاريف فتح المكتب وتأثيثه, كما اشار الى حقيبتين كبيرتين قائلا: وهذه الحقائب بها ملابس وهدايا لزوجتك وابنائك, واختتم جاك كلامه قائلا: هل أنت مستعد للقيام بأول مهمة فمسألة السفن هامة جدا اجبته متظاهرا بالزهو والسعادة: يا عزيزي بالتليفون تكون كل التفاصيل لدي منطقة القناة كلها تحت امري.
ان هذه الاحداث التي مر عليها اكثر من ثلاثين عاما لم تتركني لحظة بل لم انس منها اي تفصيلة وكأنها حدثت بالامس لقد تركاني ابراهام وجاك يومين لانعم باجازة اقضيها في مرح وسهر ولكنني لم انعم حتى بنوم هادئ لدقائق فقد بات كل شيء واضحا وضوح الشمس في اليوم الثالث حضر ابراهام وجاك واوصلاني للمطار وقالا لي سنراك في فرانكفورت حيث ترانزيت الطائرة.
وفعلا وصلت الطائرة لمطار فرانكفورت وهناك تقابلت معهما ليبدأ مزيدا من التأكيد والاهتمام على مهمتي وصلت القاهره و نزلت من الطائرة مسرعا وفي الدائرة الجمركية تم تفتيشي وتفتيش حقائبي والغريب انهم لم يجدوا الـ (185) الف دولار فقد قام ابراهام باخفائها بطريقة جهنمية.
استقليت (تاكسي) من المطار واسرعت لاولادي وزوجتي الذين جمدتهم المفاجأة السعيدة بقدومي دون اخبارهم مسبقا وفي اليوم التالي زرت ابي وامي في الصعيد حيث استقروا فيه بعد التهجير, وكنت اشعر بالعبء الثقيل الذي احمله على صدري, ورحت افكر كيف اتخلص من هذا العبء الجاثم فوق قلبي ويشل تفكيري حتى اهتديت الى الاجابة: لابد من الذهاب الى الزعيم فحتما هناك سأجد الراحة والامان والسكينة(جمال عبد الناصر) ولكن المشكلة الكبرى كانت.. كيف اصل؟!
وقضيت ليلة مؤرقة لم يغمض لي جفن افكر في السبيل الى الرئيس حتى اهتديت الى فكرة ربما افلحت, وهي الذهاب الى مبنى المباحث العامة وفي الصباح الباكر اخذت الحقيبة ذات الـ (185) الف دولار وذهبت الى احد المقاهي وسألت عن مكان المباحث العامة وعرفت انها بوسط المدينة وهناك على البوابة سألت عن رئيس المباحث العامة.
وبالطبع لم يكن الوصول اليه سهلا بل استغرق ساعات حتى سمحوا لي بمقابلته وهناك سألني ماذا تريد؟
قلت له اريد مقابلة الرئيس جمال عبدالناصر فضحك ساخرا وامطرني سبابا ولماذا؟
فتمالكت نفسي وقلت له لدي معلومات تهم البلد اريد ان ابلغها لسيادته شخصيا فقال الضابط الكبير وهل الرئيس متفرغ لامثالك قل لنا ماهي هذه المعلومات وسوف نتصرف فأصريت على موقفي.
فما كان من رئيس المباحث الا ان سلمني لمرؤوسيه ليقوموا بالواجب معي وامضيت معهم ثلاثة ايام في ضيافتهم ولم انطق سوى بكلمتين: اريد مقابلة الرئيس حتى أعياهم ألحاحي واصراري فاتصلوا بمكتب الرئيس وكان رئيسه وقتذاك سامي شرف, فطلب منهم ارسالي للرئاسة, فذهبت في حراسة من المباحث ومعي الحقيبة التي لم يكتشف احد ما فيها, وهناك سألني سامي شرف عن سبب طلبي الملح في مقابلة الريس, فأجبته لقد حاولوا معي ثلاثة ايام بلياليها ولم اقل شيئا واذا حاولت سيادتك ثلاث سنوات لن أقول شيئاً الا امام الرئيس فذهب شرف للرئيس جمال عبدالناصر يستأذنه في مقابلتي .
عندما وصل الى مدير مكتب عبدالناصر للمعلومات سامي شرف وطالبه بمقابلة عبدالناصر قام شرف باستئذان الرئيس في المقابلة فوافق وهنا استأذن سامي شرف في تفتيش الحقيبة التي كان يحملها معه وبداخلها الدولارات وافقت على تفتيش الحقيبة فقد كنت اعرف جيدا انه لن يستطيع الحصول على شيء لأن المباحث قامت بتفتيشها اكثر من مرة ولم تفلح في العثور على النقود, وبالفعل لم يجد سامي شرف شيئا فأعطاني الحقيبة ودخلت لمكتب الريس فوجئت بنفسي امام الريس جمال عبدالناصر بشحمه ولحمه بيعدا عن الصور المعلقة على الجدران فتلعثمت وكادت انفاسي تنقطع, ولاحظ الريس ذلك.
فوضع يده على كتفي مهدئا وقال مرحبا: اهلا يا سيد هوان, وطلب لي عصير ليمون وله فنجان قهوة, وكنت في امس الحاجة لهذا العصير حتى ألملم نفسي وارتب افكاري لم انس هذا اليوم في حياتي, ولولا هذه المقابلة ما كنت قمت بأي عمل, فقد كانت هذه المقابلة دفعة قوية لي.
.
يتبع غدآ
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.