العاصمة

الكلام ليس من فضة

0
أحمد السندوبي
الصمت هو فضيلتي المفضلة، دائمًا ما يؤخذ عليّ أنني لا أتكلم كثيرًا، وكثيرًا ما لاحقتني أسئلة مثل
( لماذا ظللت صامتًا طوال الجلسة) ،
( لماذا لم تقل رأيك حين تكلم فلان ).
أعرف أن السكوت عن الحق جريمة ولكن الكلام بدون فائدة في نظري جريمة أخرى، ورغم أني لا أحب الكلام طالما كان اختيار الصمت
موجودًا إلا أنني ندمت على نصف الكلام الذي تكلمته ولو عاد الزمان بي لاكتفيت بالصمت في كثير من المواقف.

من يتكلم كثيرًا يخطيء كثيرًا، ونحن كمصريين وكعرب عمومًا نتكلم كثيرًا جدًا وفي أغلب الوقت بدون داعٍ. نسأل عن أشياء كثيرة لن
تفيدنا وكذلك نحكي تفاصيل عديدة لا دخل للمستمع بها، هناك مقاطع كاملة نستطيع اقتطاعها من حواراتنا دون أن تخل بالمحتوى،
هناك مواقف كثيرة قيلت فيها حوارات طويلة كان من الممكن التغاضي عنها بابتسامة أو هزة رأس أو إشارة سلام باليد.

ظلت الاتهامات تطاردني أثناء الدراسة “لماذا لا تشارك وتجيب أسئلة المدرس طالما أنت تعرف الإجابة؟” ، ردي كان منطقيًا بالنسبة
لي ( لأنه لم يوجه السؤال لي، لو سألني لأجبت) ولكن أحدًا لم يقتنع بتلك الإجابة.

لاحقًا عرفت أن الجينات لها دور كبير في هذه الصفة فهي منتشرة في عائلة أبي بدرجات مختلفة حتى أنها وصلت لابني أيضًا. لكنها
ظهرت في أقصى صورها في قريب لي كان يزورنا دائمًا في المناسبات ويجلس صامتًا لا ينبس ببنت شفة ثم يقوم ملقيًا السلام
وعندما نطلب منه أن يمكث قليلًا أو ينتظر العشاء وما إلى ذلك من العبارات المستهلكة كان يصرّ على الانصراف دون الحديث المعتاد
عن أن الوقت قد تأخر أو أنه سيذهب لزيارة بقية العائلة أو أي من تلك الحجج. الرجل جاء لزيارتنا على سبيل صلة الرحم، ليس هناك
ما يريد التحدث فيه، أدى مهمته وانصرف، ورغم غرابة تصرفه -في نظر البعض- إلا أنه كان الزائر المفضل لديّ، وبعد وفاة أبي كنت أنا
من يستقبله ونجلس سويًا صامتين في انسجام تام ثم يقوم فأسلم عليه وتنتهي الزيارة، دون أسئلة سخيفة أوأخبار سيئة.

فيما بعد عرفت أن قريبي هذا هو من وصل لليقين مبكرًا، الدنيا لا تستحق كل هذا الكلام والجدال والنقاش والآراء التي هي في الغالب
ليست مبنية على أي أساس، فصار هو قدوتي في الحياة.

هناك طبعًا استثناءات، الأول هو العمل؛ فمن صميم واجبي أن أشرح للمريض طبيعة مرضه وخطة العلاج وأجيب عن كل أسئلته باستفاضة
( ملحوظة: المريض المصري يفضل الطبيب الذي لا يتكلم كثيرًا ولا يرد على أسئلته لأنه يبدو مشغولًا ومهمًا جدًا ولا وقت لديه لتفاهاته
وياحبذا لو قاطعه بأسلوب صارم أو عنيف ولم يسمح له بالحديث، هذا سيرفع أسهمه كثيرًا في عين المريض ).

الاستثناء الثاني هو الكتابة، فكلما قررت أن أكتب عن موضوع بسيط لا يحتاج إلا لعدة أسطر أكتشف أنني كتبت صفحة كاملة في
مقدمة الموضوع فقط، عادة سيئة لم أستطع التخلص منها؛ الاستطراد والإفاضة والتطويل في الكتابة، ربما هو تعويض عن قلة الكلام،
والمقال هذا نفسه دليل على هذه العادة السيئة فبدلًا من كل هذه السطور كان من الممكن اختصار كل هذا في جملة بسيطة مثل
( خير الكلام ما قل ودل) أو (إن كان الكلام من فضة فإن …
عفوًا أنا أعترض فالكلام ليس من فضة .

اترك رد

آخر الأخبار