. الحشاشون بين المسلسل و الحقيقة .
إيمى عاطف
مسلسل الحشاشين ..جهد مشكور من القائمين عليه .. اختلفت فيه القصة الحقيقية مع مستلزمات الدراما .
.
و هذه هى القصة الحقيقية كما أوردها الصديق الفاضل الدكتور / محمد شعبان أيوب فى كتابه عن تلك الطائفة :
.
(( . الحشّاشون.. القصة الكاملة لأكثر الفرق دموية في التاريخ الإسلامي . ))
ظهر الإسماعيليون على مسرح التاريخ إثر وفاة الإمام جعفر الصادق في العام 148هـ/765م، وكان من نتائج هذه الوفاة الصراع بين أولاده ومريديه، ومن ثم الانقسام إلى عدد من الجماعات المنفصلة،
ومن هؤلاء الإسماعيليون الأوائل. وهناك اتفاق عام بين الدارسين لشؤون الإسماعيلية أن خطّا من القادة المركزيين المتحدّرين من جعفر الصادق قد عملوا في تلك الفترة المبكرة من عدة مراكز قيادية، على تنظيم حركة شيعية مناوئة للحكم العباسي، باعتبارهم “مغتصبين” للحقوق الشرعية للأسرة العلوية في زعامة الأمة .
.
ومنذ القرن الثالث الهجري حققت “الدعوة الهادية” نجاحًا بشكل خاص في العراق وفارس وشرقي الجزيرة العربية واليمن، فقد دعا هؤلاء الدعاة إلى إمامة “المهدي الإسماعيلي” الذي سيخلّصهم من مظالم العباسيين، كما أن حكمه سيؤذن بعودة الخلافة إلى العلويين المخلوعين، وتوّج انتصار الشيعة الإسماعيلية المبكّرة بإقامة الخلافة الفاطمية سنة 297هـ/909م في شمال أفريقية، عندما تم تنصيب الإمام الإسماعيلي في تلك الآونة في منصب جديد، وكان الأول من نوعه “الخلافة الشيعية” .
.
انقسام الإسماعيلية :
حقّقت الدولة الفاطمية الإسماعيلية تطلعاتها السياسية والفكرية بل والعسكرية في ميدان الصراع أمام العباسيين في العراق، فقد أضحت مصر التي دخلها الفاطميون سنة 358هـ/969م، مركز الدعوة والدولة الشيعية في منطقة الشرق العربي، وبالتوازي مع هذا التطور السياسي والتوسعي، ازدهر الفكر الإسماعيلي، والدعوة الإسماعيلية التي تمكنت من تحقيق نجاحات مؤثرة في المشهد السياسي والفكري آنذاك.
وقد كُلل هذا النجاح بحركة البساسيري الشهيرة في العام 450هـ، حين انقلب القائد العسكري أبو الحارث أرسلان البساسيري على الدولة العباسية، وحين هرب الخليفة العباسي القائم بأمر الله، فأضحت بغداد مركز الخلافة العباسية السنية تابعة لأول مرة إلى الخلافة الفاطمية في تحول بدا كارثيًا وغير متوقع آنذاك، لكن سرعان ما دخل السلاجقة إلى بغداد وطهروا العراق بل ومعظم بلاد الشام من الوجود الفاطمي، وتمكنوا من إعادة الأمور إلى نصابها، وحملوا على عاتقهم منذ ذلك الحين همّ مناوأة الفاطميين على الصعيدين السياسي والعسكري .
.
وفي العام 487هـ/1094م توفي الخليفة الفاطمي المستنصر، فانقسم الإسماعيليون بوفاتِه إلى جماعتين متنافستين النزارية والمستعلية، وذلك بعد أن نجح الوزير الفاطمي القوي الأفضل الجمالي صاحب السلطة المطلقة والفعلية حينذاك، في تنصيب الابن الأصغر للمستنصر ولقّبه بلقب المستعلي بالله (487- 495م/1094 – 1101م)، حارمًا بذلك نزار الابن الأكبر للمستنصر وولي العهد من حقه الشرعي في ولاية الخلافة، وقد اعترف إسماعيليو مصر والمناطق التابعة للنظام الفاطمي في تلك الفترة بإمامة المستعلي بعد المستنصر فصاروا يُعرفون بالمستعلية، في حين اعتراف إسماعيليو إيران بإمامة نزار، فعُرفوا به.
وكان ظهور طائفة الحشاشين -على يد مؤسسها الحسن بن الصباح الإسماعيلي -واستيلاؤهم على قلعة أَلَموت في بلاد فارس- وبالتحديد في جنوب غرب بحر قزوين منذ عام 483هـ/1090م- عاملاً كبيرًا من عوامل القضاء على السلاجقة وإضعاف العباسيين فضلا عن خطرهم الداهم الذي استمر يصارع القوى السنية المحيطة بهم مثل الزنكيين والأيوبيين والخوارزميين، فضلاً عن الغارات الكبيرة التي كانت تقوم بها هذه المجموعات على المناطق المحيطة والتي كان يسكنها على الأغلب السكان المسلمون السنة .
ولد الحسن بن الصباح بالري في إيران عام 430هـ/1039م، وقد ذكر بعض المؤرخين أنه ولد في مدينة قُم معقل الشيعة الاثني عشرية، ثم انتقلت عائلته إلى الري مركز نشاطات طائفة الإسماعيلية فاتخذ الطريقة الإسماعيلية الفاطمية وعمره 17 سنة.
شملت دعوة ابن الصباح يزد وكرمان وطبرستان ودامغان وولايات أخرى من إيران لم يدخل في عدادها مدينة الري؛ لأنه كان يتجنبها اتقاء لشر الوزير نظام الملك الطوسي
.
لقد استمر ابن الصباح في قراءة كتب الإسماعيلية، ناهلاً منها معارفه وأطروحاته، كما حرص على تلقي علوم الإسماعيلية من علمائها، ثم ما لبث ابن الصباح أن أدى يمين الولاء للدولة الفاطمية ودعوتها أمام داعٍ إسماعيلى نائب عن عبد الملك بن عطاش كبير الدعاة الإسماعيليين حينئذ في غرب إيران والعراق،
وفى عام 464هـ/1072م وصل عبد الملك بن عطاش لمدينة الري، فلقيه حسن الصباح وقد وافق ابن عطاش على انضمام الصباح للدعوة الإسماعيلية، وحدد له مهمة معينة في جسم هذه الدعوة/الحركة، ثم طُلب منه السفر إلى مصر لكي يسجل اسمه في بلاط الخليفه الفاطمي بالقاهرة .
وخرج الحسن بناء على ذلك إلى مدينة أصفهان في سنة 467هـ/1075م فأقام بها سنتين يشتغل بالدعوة وكيلا لابن العطاش، ثم خرج منها إلى مصر التي وصلها في الثلاثين من أغسطس سنة 471هـ/1079م، وقد استقبله بها داعي الدعاة “أبو داؤود” استقبالا حافلا شاركه فيه جماعة من النبلاء والأعيان الفاطميين، وسرعان ما شمله المستنصر برضاه، وأغدق عليه، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن “فمن الإمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار”.
ومنذ تلك اللحظة دان ابن الصباح بالولاء لنزار بن المستنصر، وإن كان قد أقام بالقاهرة ثمانية عشر شهرا كاملا كثرت فيها دسائس “المستعلي” وأعوانه، وخاصة قائد الجيش بدر الجمالي، فاضطر إلى مغادرة مصر وركب السفينة من الإسكندرية في شهر رجب سنة 472هـ/1080م، ووصل في النهاية -بعد رحلة خطرة كاد يغرق فيها أمام شواطئ الشام- إلى مدينة أصفهان في ذي الحجة سنة 473هـ/1081م.
ومنذ ذلك الوقت أخذ ابن الصباح يدعو لنزار (أكبر أولاد الخليفة المستنصر الفاطمي) فشملت دعوته يزد وكرمان وطبرستان ودامغان وولايات أخرى من إيران لم يدخل في عدادها مدينة الري؛ لأنه كان يتجنبها اتقاء لشر الوزير نظام الملك الطوسي الذي كان يتحرق إلى القبض عليه، كما دلت على ذلك أوامره التي أصدرها .
دولة الإسماعيلية بإيران!
تنقل الصباح داخل إيران مستكشفا لها لمدة تسع سنوات، ثم قرر نشر الدعوة منطلقًا من إقليم الديلم ومازندران، كما كان يتفادى المدن في تنقلاته ودعوته، ويفضل أن ينتقل عبر الصحراء، حتى استقر في منطقة دامغان وحوّلها إلى قاعدة للدعوة الإسماعيلية النزارية، يبعث منها الدعاة إلى المناطق الجبلية لجذب الناس إلى هذه الدعوة، واستمر على ذلك لمدة 3 سنوات حتى أصبح خطرًا داهمًا على الوجود السلجوقي في إيران، وقد اتخذ الوزير نظام الملك الطوسي قرارًا باعتقال ابن الصباح؛ لكنه تمكن من الهرب إلى صوب قزوين .
لم يكن كل هم حسن الصباح في تنقلاته نشر دعوته وكسب الأنصار فحسب؛ بل أيضاً للعثور على مكان مناسب يحميه من مطاردات السلاجقة الدائمة، ويتمكن من خلاله من جعله قاعدة مستقرة وآمنة لنشر دعاته في إيران؛ لذا عزف الصباح عن المدن لانكشافها وسيطرة السلاجقة عليها؛ وسرعان ما وقع على بُغيته التي وجدها في قلعة ألموت المنيعة.
وهذه القلعة كانت حصنًا قديمًا فوق صخرة عالية في منطقة وعرة وسط الجبال على ارتفاع ستة آلاف متر أو يزيد، وقد بُنيت بطريقة شديدة الإحكام، فليس لها إلا طريق واحد فقط للوصول إليها؛ مما يصعّب على الغزاة اقتحام هذه الطريق الوعرة، ولم يعرف على وجه الدقة أول من بنى هذه القلعة، ويقال إن من بناها هو أحد ملوك الديلم القدماء وأسماها (ألوه أموت) ومعناها عش النسر، ثم جددها أحد حكّام المنطقة المحليين وكان علويا سنة 246هـ/860م، وبقيت في أيدي عقبهِ حتى استيلاء الإسماعيلية عليها بقيادة ابن الصباح في 7 رجب سنة 483هـ/1090م.
وقد روى ابن الأثير قصة دخولهم هذه القلعة قائلاً “إن الحسن الصباح كان يطوف على الأقوام يُضلّهم فلما رأى قلعة ألَموت واختبر أهل تلك النواحي، أقام عندهم وطمع في إغوائهم ودعاهم في السر وأظهر الزهد ولبس المسح فتبعه أكثرهم، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه يجلس إليه يتبرك به، فلما أحكمَ الحسنُ أمره دخل يومًا على العلويّ بالقلعة فقال له ابن الصباح: اخرج من هذه القلعة فتبسّم العلوي وظنه يمزح فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوي فأخرجوه إلى دامغان وأعطاه ماله وملَك القلعة”.
أُطلق عليهم لقب الحشاشين لأنهم كانوا يختفون وسط الحشائش لاغتيال معارضيهم، وقيل لشربهم “الحشيش” قُبيل عمليات الاغتيال حتى لا يتراجعوا عنها
ظل الحسن الصبّاح في هذه القلعة الحصينة بقية حياته، فلم يخرج منها طوال 35 عامًا حتى وفاته، وكان جل وقته يقضيه في القراءة والمطالعة، والتخطيط لنشر المذهب الباطني الإسماعيلي النزاري، ومراسلة الدعاة وتجهيز الخطط، وكان همّه الأول والدائم كسب الأنصار والمؤيدين الجدد، والسيطرة على القلاع والبقاع الجديدة التي تسهم -هي الأخرى- في توسيع النفوذ الباطني في تلك النواحي.
لذلك استمر بإرسال الدعاة إلى القرى المحيطة برودبار المجاورة، كما أرسل مليشياته للسيطرة على القلاع المحيطة تارة عن طريق الخدع الدعائية، وتارة بالأساليب الدموية والمجازر، وحين تمكن الحسن الصباح من الاستيلاء على قلعة لمبسر عن طريق هجمات مليشياته عليها ما بين عامي 489هـ و495هـ/1096- 1102م بقيادة عامله “كيا بزرجميد” والتي دام حكمه لها عشرين عاما، وقد كانت قلعة استراتيجية مهمة وقائمة على صخرة مدورة تطل على منطقة شاه رود بوسط إيران؛ تمكن من الاستيلاء على كافة منطقة رودبار في شمال إيران.
وفي سنة 484هـ/1091م بعث ابن الصباح دعاته إلى منطقة قوهستان الجبليه القريبة من قلعة الألموت، ومن ثم استطاع دعوة سكان تلك المنطقة عن طريق استغلال حالة التذمر التي كانوا عليها ضد حكم السلاجقة فصارت تابعة للإسماعيليين .
في المقابل لم يتحمل أهل منطقة أبهر القريبة هجمات الإسماعلية فأرسلوا استغاثة إلى السلطان السلجوقي بِركيارق بن ملك شاه كانت السبب في إرساله فرقة عسكرية لمحاصرتها واستمر الحصار ثمانية أشهر، وتمكّن من الاستيلاء عليها سنة 489هـ/1096م وقتل من كان بها من الإسماعلية؛ لذا كان العداء مستحكمًا بين السلاجقة والإسماعيلية .
.
دموية الحشاشين :
لُقب الإسماعيلية بالباطنية؛ “لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر.. وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معيّنة”،
وأن من يملك فهم هذه الحقائق والإشارات هم الذين سقط عنهم التكليف.
أما لقبهم “الحشّاشين” أو “الحشّاشية”؛ فقد أُطلق عليهم هذا اللقب لأنهم كانوا يختفون وسط الحشائش لاغتيال معارضيهم، وقيل لشربهم “الحشيش” قُبيل عمليات الاغتيال لمعارضيهم حتى لا يتراجعوا عنها وسط تأثير هذه المادة المخدّرة .
لقد كانت فرقة الحشاشين شديدة الدموية والجرأة في مواجهة الخصوم، وكان السنة والصليبيون على السواء يخافون من غيلتهم ودمويتهم، ومهاراتهم غير المتوقعة في الإجهاز والقتل، ففي تقرير أرسله أحد المبعوثين للإمبراطور الألماني فردريك بربروسا سنة 570هـ/1175م قال “لهم سيد يلقي أشد الرعب في قلوب كل الأمراء العرب القريبين والبعيدين على السواء، وكذلك يخشاه كل الحكام المسيحيين المجاورين لهم؛ لأن من عادته أن يقتلهم بطريقة تدعو للدهشة” .
وأمام هذا الخطر الداهم للوجود الإسماعيلي في إيران، وهي منطقة نفوذ ووجود سلجوقي سني بالأساس، كان العام 485هـ/1092م هو البداية الحقيقية لمواجهة السلاجقة للحسن الصباح؛
حيث بعث السلطان ملكشاه السلجوقي حملتين واحدة على قلعة ألموت والثانية على قوهستان القريبة؛ لكن الفرق العسكرية الإسماعيلية المدرّبة تصدت للسلاجقة، وبمساعدة من الأهالي المتعاطفين معهم في رودبار وقزوين اضطر السلاجقة إلى الانسحاب، خاصة بعد وفاة السلطان ملكشاه في شوال من العام ذاته.
بل استطاع الحسن الصباح أن يضرب ضربته الكبرى باغتيال الوزير الشهير نظام الملك الطوسي بعد عدة أسابيع فقط من وفاة السلطان ملكشاه من نفس العام 485هـ/1092م، وقد كان اغتيال نظام الملك من أوائل عمليات الاغتيال الكبرى التي قام بها الحشاشون، وهي فرقة فدائية كانت رأس حربة الإسماعيلية في الانتقام من خصومهم؛ بل كانت بداية لسلسلة طويلة من الاغتيالات التي قاموا بها ضد ملوك وأمراء وقادة جيوش ورجال دين، استمرت حتى احتل هولاكو قلعة ألموت وقضى على شوكتهم في الشرق، والتي استمرت حوالي القرنين من الزمان .
.
توفي ابن الصباح عام 518هـ/1124م في الألَموت، واختلفت المصادر عن مصير ذريته فبعض المصادر تذكر أنه قتل أولاده في حياته، إلا أن جل المصادر التاريخية وأغلبها أجمعت على أنه مات من غير تلك الجناية، وقد وخلفه بزرك أميد (برزجميد) في زعامة الطائفة، وكان قد كلف آخرين بشؤون الدعوة والإدارة وقيادة القوات الإسماعيلية قُبيل وفاته، وطلب منهم التعاون والتآزر حتى ظهور الإمام المستتر بحسب العقيدة الإسماعيلية .
.
وبالرغم من وفاة ابن الصباح فقد استمرت الصراعات المسلحة بين الإسماعيلية الباطنية والسلاجقة وتوسعت مناطقهم، وتمكن الحشاشون من الاستيلاء على قلاع جديدة؛ لكن السلاجقة استطاعوا احتواء خطرهم سنة 500هـ/1107م عندما استولى السلطان محمد السلجوقي على قلعة شاه دُز بالقرب من أصفهان، وقتل عددًا كبيرًا منهم من ضمنهم ابن العطاش كبير دعاتهم في إيران وولده، لكن بقي خطرهم قائمًا بوجود قلعة الألموت الحصينة.
باطنية الشام :
كان أول ظهور للحشّاشين الإسماعيلية في بلاد الشام سنة 498هـ/1105م عندما أرسل الحسن الصباح داعيته لنشر المذهب، ولإفساد علاقة الأخوين (دقّاق حاكم دمشق ورضوان حاكم حلب ابني تُتش بن ألب أرسلان السلجوقي)، فتحالف الداعية الإسماعيلي مع رضوان واستماله إلى المذهب الإسماعيلي، وأقام دارا للدعوة الإسماعيلية في حلب، ولكن موت رضوان جعل خلفه ألب أرسلان الأخرس ينقلب على الإسماعيلية في تلك المنطقة؛ بل تمكن من قتل رئيسهم أبي طاهر الصائغ، ولم يجد البقية إلا الهرب والنجاة.
على أن نفوذهم اشتد أيام داعيتهم بهرام في دمشق وما جاورها في الربع الأول من القرن السادس الهجري، لكن غضب أهل دمشق على هذه الدعوة اضطر بهرام للهرب مع أتباعه، فتمكن من الاستيلاء على قلعة بانياس غربي دمشق، ولم يلبث إلا قليلاً حتى بدا خطره ماثلاً من جديد على هذه المنطقة، وكان الأتابك طغتكين -الذي وقف بجوارهم بادئ الأمر- قد أفاق على صدمة هذا الخطرالقريب منه شخصيًا، غير أنه توفي قبل مواجهتهم، وقد خلفه ابنه تاجُ الملوك بوري على حكم دمشق، وفي عهده أفرط وزيره المزدقاني الموالي للباطنية في حماية رفاقه، حتى إنه عرض على الصليبيين تسليمهم دمشق غيلة مقابل إعطائه هو والباطنيين مدينة صُور بديلا عنها، وحدّد الطرفان أحد أيام الجُمع لتنفيذ ذلك الاتفاق، وقت انشغال أهل دمشق بصلاة الجمعة .
لكن تم كشف المؤامرة قبل موعدها فقتَل الأمير بوري وزيره الخائن، وأصدر قراره بتعقب الباطنية في كافة بلاده، وهو الأمر الذي تحمس له العامة قبل القادة، ولم يأت منتصف رمضان سنة 523هـ/1129م حتى قُتل ستة آلاف باطني، وعند ذلك استنجد داعيتهم إسماعيل العجمي بالصليبيين الذين كانوا يتمركزون في الساحل الشامي، طالبًا منهم الحماية واللجوء مقابل تسليمهم قلعة بانياس، وقد كانت هذه الأحداث بمثابة كلمة النهاية للوجود الباطني في الشام .
.
نهاية الباطنية بإيران :
على الرغم من الاجتياح المغولي الأول للمشرق الإسلامي منذ العام 616هـ/1219م، واستيلاء هؤلاء المغول على إيران من جملة ما استولوا عليه؛ فإن الإسماعيلية النزارية “الباطنية الحشاشية” استطاعوا أن يوثّقوا العلاقة بهؤلاء المغول في بادئ الأمر؛ بل ورد في بعض المصادر أن الإسماعيلية هم الذين دعوا جنكيزخان إلى القضاء على جلال الدين خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية التي ورثت دولة السلاجقة في تلك المنطقة؛ لما لحقهم على يديه من العنت والتضييق ومحاولات التصفية.
غير أنهم رأوا أن مطامع المغول لا تتوقف عند حد معين، وأن فتوحاتهم وتوسعهم لا يزال مستمرًا، فخافوا من هذا الخطر الداهم، وسعوا في طلب العون من الصليبيين الذين وثّقوا علاقتهم معهم منذ بداية الحروب الصليبية ضد السلاجقة والزنكيين ثم الأيوبيين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إنهم حاولوا عقد تحالف مع جميع الإمارات والقوى المجاورة لهم، بما فيهم أعداء الأمس لصد خطر المغول القريب، لكن كان السيف قد سبق العذل .
.
على الجانب الآخر ثمة روايات أخرى تؤكد أن عموم المسلمين الذين كانوا يخضعون في مناطق قزوين والري وأصفهان وغيرها لحكم الباطنية الحشاشية، أرسلوا يطلبون النجدة من المغول للقضاء على هؤلاء الذين أذاقوهم الويلات، ولقد وقف المغول على حقيقة العلاقات بين الإسماعيلية وعموم الناس في تلك المناطق، وبالرغم من إيفاد الباطنية بعض سفرائهم إلى “قراقورم” عاصمة المغول في منغوليا، لمباركة كيوك حفيد جنكيز خان على اختياره خانا جديدًا لإمبراطورية المغول سنة 649هـ/1252م، فإنهم لم يلقوا المعاملة اللائقة من الجانب المغولي.
وعبثًا حاول ركن الدين خُورشاه آخر زعماء الإسماعيلية في إيران تجنب الغزو المغولي الثاني -الذي قضى على الخلافة العباسية سنة 656هـ/1258م- من خلال الاعتصام في قلعة ميمون الحصينة؛ لكن القائد العسكري المغولي الأشهر هُولاكو أرسل إليه يطلب منه القدوم والخضوع، وهدده بالانتقام والقتل إن رفض هذا الأمر، ولم يجد خورشاه أمام القوة المغولية إلا الإذعان والانقياد وذلك في شوال سنة 654هـ/1256م، ثم لم تلبث أن استسلمت قلعة ألموت في ذي القعدة من نفس العام بعد قتال قصير لم يطل من حاميتها .
.
وبعد أن ضمن هولاكو حياة خورشاه -أو هكذا بدا له- أراد ركن الدين التوجه إلى مونكوخان زعيم المغول في قراقورم، لعله يحصل على معاملة لائقة أو ضمانة لحياته، لكن الزعيم المغولي رفض هذ اللقاء؛ وإذ لم يبقَ مِن القلاع الإسماعيلية إلا اثنتان لم تستسلما للمغول بعد؛ تقرّر الاستعانة بخورشاه في تدبير أمر إذعانهما وهو ما تم بالفعل؛ وفي أثناء عودته بعد إخضاع كافة بلاد الحشاشين إلى المغول صدر الأمر بقتله مع جميع رفاقه.
ثم صدرت الأوامر لهولاكو بالتخلص نهائيا من جميع الحشاشين، فقتلت أعداد كبيرة من أقارب خورشاه، ثم جمع عدد كبير من الإسماعيلية بغرض الإحصاء لكن هؤلاء أيضًا تم قتلهم جميعا، ولم ينجُ إلا من اعتصم بجبال فارس، وهكذا تم القضاء على الإسماعيلية النزارية بضربة نهائية قوية بعد وجود في إيران دام ما يقارب القرن والنصف من الزمن.
ولا يزال بقايا الإسماعيلية النزارية اليوم في كثير من دول العالم، ولعل من أهمها الطائفة التي يُطلق عليها الأغاخانية، ويُعد إمام هذه الطائفة واحدًا من أغنى أغنياء العالم؛ نظرًا لما يتحصّل عليه من أتباع هذه الطائفة التي تبلغ نحو العشرة ملايين شخص في أرجاء العالم .
.