العاصمة

الحجيج وأيام مَعدُودات

0

 

كتبت / ناهد عثمان

الليلة التاسعة

يَمتليُء بكَ المكان يا رسولَ الله .. ويراكَ الحَجيجُ قابَ قَوسَين حَولهم؛ أو أدْنى !

يَرهفون السَّمع ..
فَهُنا القَصْواء .. ناقةُ النّبي ﷺ مِثل ظَبية تَحمِل عِشقها !

تَتَهادى القَصواء ؛ مِثل عروسٍ مِن عالَم الأسَاطِير ..

تَغرقُ خَطوتها في بَحرٍ مِن النَّعم .. فَنهرُ النُّبوة على ظَهرها ..

يَضْطرَبُ إيقاعُ الكَون مِن وَقْع قَدميها ؛ وَجلاً أن تمر تحت الخُفِّ حَصاةٌ و يَهتَزّ الحَبيب ﷺ !

يَلتَفّ الصَّحْب آلافاً ؛ مِثل شُهُب تَفرّدت في ظُلمة العّتْم ..
ويَمضون مَع الرَّكْب المُبارك نَحوَ عَرَفه ..
وعلى ضَفّةٍ أُخرى مِن التّاريخ ؛ يَطوي الحَجيج الّليلة أمْتِعَتهم إلى عَرفة !

ثَمّةَ مَخاضٍ يَنتظرُ الكون غَداً ..
ثَمَّة مِيعادٍ مَع ألفِ ميلادٍ ومِيلادٍ .. فيا لَهفْ قَلبي :
( كيفَ يَغَفو الّليلة مَن في قَلبه شَغَف ) ؟!

يا هَيْبة الَفجر ..
إذ تُلَوحُ أشعةُ الشّمس مَلامح النَّبي ﷺ بِأُلق النّور ..

أهذا وَهْجُ التّجلي المُحَمّدي ّ.. أمْ رَجفةُ الأكوانِ ؛ وهي تُحصي أنفاسَ المَلائكة النّازِلين لاستقبالِ قافلةَ النّبي وَوفدِ النّعيم !

يَتَراصّ الحَجيج على الرّواحل ، ويَتدفّقون إلى عَرفه ..
فاليومُ .. سَتُتلى لهم فاتِحة البَدء مِن حَكاية فضلٍ لن تَنتهي !

يَمدُّ الحَجيج الخُطى ..
ومابين النّبضة والنّبضة ؛ تَخفِقُ أرواح !

مابينَ النّبضة والنّبضة ؛ يَطيرُ حمامُ القلبُ إلى عَرفه !

فاليومُ المَوعد مَعَ الله !

فيا مَكّةَ الله ..
يا بَلدةَ اللهِ فاضَ الفَضلُ فانْهَمِري !

تقتَرِبُ الشّمس مِن رِحال النّبي ﷺ تَلتمس مِن شُعاع النُّبوة شُعاعا ..

تَنتَصِف الظّهيرة ، ويَتبدّى ظِلّ مُحَمّد ﷺ مَزروعاً أبداً في الرِّمال !

تَزهو القَصواء ؛ إذْ تَحتَشد المَلائكة والصّحابة حَولها لِخُطبة الوَداع ..

فيا للهِ ..
كيفَ يتَآخَى الوَجعُ والفَرَح ؛ زَهو القَصواء وخُطبة الوَدَاع ؟!

تَرِفُّ أجنِحة المَلائكة قابَ أنفاسِ النّبي ﷺ وهُوَ يَخطُب الخُطبة الأخيرة ..
تَتْبَعهُ النّجمات .. وتصغي للصّلاةِ الأخيرة !

هُنا ..
الوقتُ بالنَّماء يَمتَلِئ ..
يَزرعُ مُحَمّد ﷺ الفِردوس بِكلماته ..
ويُراق رَحيق النُّبوة في الأحداقِ الدَّامعة ..

وتُتْلى الوَصية :
[ إنّ دِماءَكم وأموَالكم حَرامٌ علَيكم ؛ كَحُرمة يَومِكم هذَا، في شَهرِكم هَذا، في بلِدكم هذا ..
ألا كلّ شيءٍ مِن أمرِ الجَاهلية ؛ تَحتَ قَدمي مَوضُوع ] !

يَلتَفِتُ الحَجيج اليوم إلى ثِيابهم ؛ هل اكْتَمَل الإحرامُ مِن بياضِ الحَلال ؟!
يَتمضْمَضون تاريخاً مِن الشّوك ؛ فقد ابْتَلَت الأفواهُ كثيراً مِن أعراضِ النّاس !

ينتَحّي حَاجٌّ ويَبكي :
” يا رَبّي .. احْدَودَبَت أرواحُنا مِن ثِقَل ما فِيها ..
يا َربّي .. إنّ علَينا مِن شَعَث الجَاهِلية هُموما وهُموما ..
يا رَبّي .. أدْعوكَ وشَوكُ المَعاصي على شفتَي ..
يا رَبّي .. لا تَجعل رُجوعي مِن هُنا مُرّا “ً !

يغرَق الحَجيج في أسرارِ صَمت تُنبؤُك َ؛ أنَّ في الخَوابي دَمعٌ يُخفيه القَوم !

يُداري شابٌ اخْتِنَاقه ..
ما أصدق الدّمع وهوَ يفضَح ُصاحِبه !

يَنتَبِذ رجلٌ عَن خَيْمَتِه في نَوْحٍ شَهِيّ :
” يا رَبِّ .. هَبْ ضَعفي يداً بَيضاءَ مِن غيرِ سُوء تَمتَدّ إليكَ .. و ادّخِرني لَدَيك ” !

تَرْتَجّ البِقاع .. ويَشتَدّ النّاس في الوَجَل ..
وتَسمعُ هَمْس تَائِب :
” يارَبّي سُفُني مَثقوبة ..وأشْتَهي الإبحار إليكَ .. وليسَ معي إلا أشْرِعة مُمَزّقة !
يا رَبِّ .. تُذكي خَطيئتي ناراً أنتَ تَعْلّمُها .. فأطْفِئ أُوار النّار ” !

تَلْمَحُ عبْداً يَتأرْجَح بينَ احتراقٍ وَرغبةٍ في انْعِتاق ..
فيا للهِ ؛ كيفَ يَهتَزّ العَرشُ لِبَعض الدّعوات ؟!

كَبياضِ اليَاسَمين ؛ يَرتفعُ صوتُ النّبي ﷺ للأُمِّة :
[ اتَّقوا اللهَ في النِّساء، فإنَّكم أخذْتُموهنّ بأمانِ اللهِ ] !

تَحشَدُ عَرَفه أصداءَ الوَصِية ، وتُصبح الدُّروب مَرْوية بالمَطَر ..
أوّاهُ .. لو نُهاجِر مِن جُذورنا إلى جُذورك يا رَسولَ الله !

في قاموسِ البِرّ مَعانٍ كَثيرة .. تَمتَشِقُ الوَصية القُبّة فيها ..
أتَذكرُ النّساء في خُطبة الوَداع ؟

يا قامَةَ النُور ويا خيرَ البَشَر !

يَستقبِل النّبي ﷺ القِبلة ، ويَظَلُّ واقِفاً مِن وقتِ الظّهيرة ؛ حتّى تَصْفَرّ الشّمس ويَغيب القُرص في تَبَتُّلٍ عَجيب ..

يَرتَجِف الكَون ، وتُهاجر المَلائكة إلى الأرضِ أسراباً .. ويًصمِت الحَمام ..

تَقترب ساعة الدُّنوّ .. وتِجفل السّماء .. يُنادي النَّبي ﷺ
في الصّحابة :
[ السّكينةَ السّكينة ] ..

تطرُق الأرواحُ ، ويَفيض وَهْجٌ خَفِيّ ، ويَهتَزُّ عابدٌ مِن شِدَّة الوَجْد ويَصيح :
” يا عافِية العَليل يا عَرَفه ..
يا الله .. لا تَترُكني مُلقىً دونَ طَريق !
يا ربِّ .. لا مَسافةَ بينَ الكافِ والنُّون .. لا مسَافةَ إلا في وَهْمِي .. لا مَسافةَ إلا مِن ذَنْبِي ..
فيا مولْاي ؛ أنتَ الحَبيبُ وأنتَ الحُبّ يا أمَلي ، مَـن لي سِـواكَ ، ومَن أرجوهُ يا ذُخري ” !

يا رَبِّ ..
في مَوِقفِ عرَفه ؛ أعمارٌ هي ثلاثونَ أو أربَعون أو سِتُّون انتظاراً .. فامْنُن عليها بِدَهشةِ الفَضْل !

في نَاحِيةٍ بَعيدة .. تَسيلُ عينُ حاجٍّ وهُوَ يقولُ :
” يا رَبِّ قَد كََبُرتُ فأعْتِقني ..
يا وَيلاهُ ؛ كيفَ قَيَّدْتُ في الهَباء طَريقي ” !

فيا لازدحام ِالدّعوات ..
ويا لازدحام الدَّمَعات ؛ تُرَتِّل أسماءَ أصحابِها .. و ( دَمَعاتُ أهل العِشق تَرتِيل ) !

يقومُ عاشِقٌ في عرَفه يَشتهي أن تَقع قَدَمٌ على قَدم .. وهو يقولُ : ” قليلَ مِن يَدِ اللهِ كَوْثَر “..
فكيفَ واليومُ هو يومُ الكَثير !

صَدَق الثّورِيُّ إذْ قالَ :
” أخْسَرُ النّاس صَفقةً ؛ مَن ظنَّ أنّ اللهَ لا يَغْفِرُ لِهَؤُلاء ” !

تلوحُ خُيوط النّعيم ؛ تَنْسِجُ للحَجيجِ بُردة المَغفرة ..
عَبَقٌ شَهيٌّ يَغمُر المَكان ..
تُظَلّل السّكينة غُربة التّائهين ..
لا قَلَقَ بَعدَ اليوم ولا سَراب ..
يَخِفّ وَجيبُ القُلوب لحظةَ الاقتراب الإلهيّ ، وتُمسُّ الأحلام ؛ فَقد استُجيبَ الدُّعاء !

يَبكي لاجِئٌ يَمَنِيٌّ ؛ يارَبّ مُنّ عَلينا بِزَمنٍ { فيهِ يُغاثُ النَّاسُ وفيهِ يَعصرُون } ..
فَيَردُّ عَليه صَبِيّ مِن الشّام ؛ يا رَبّ آمِين !

يَمنحُ رِجلٌ مِن القُدسِ مِنديلَ شَهيد ؛ لِسَيّدة مِن العِراق ويقولُ لَها :
لَنْ يَجِفّ زَمنٌ فيهِ عرَفَه ..
لولا دُعاءُ عرَفَه لصارَ العَالَمُ خراْباً !
تَصْفرُّ الشّمس ، وتُصبح عَرَفه ساحةَ عُرسٍ مُبَلَّلة بالنّدى ..
الغُيومُ في أيدِي الحَجيج ..
وفي قُلوبهم مَطَر ..
يَبتَسِمون للسَّماء ..
ثَمَّة ضوءٍ يُعيدُ تَرتِيبهم .. فَقد اكْتَملَ الشَّفَقْ !

اترك رد

آخر الأخبار