“”وكل داع شافع دعا الله سبحانه وتعالى وشفع فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره
ومشيئته، وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة، وهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من
جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى الأسباب شرك في
التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في
الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقدر له
من الأسباب من دعاء الخلق .. وغيرهم ما شاء ]. في الحقيقة هذه قاعدة عظيمة قد تضمنت عدة
فروع، منها: الأسباب والاعتماد عليها أو عدم الاعتماد عليها، والشيخ ابن تيمية هنا قد ذكر الشق
الأول من القاعدة، فقال رحمه الله: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد. وهذا كلام مجمل في
الحقيقة يحتاج إلى بيان؛ لأن الالتفات للأسباب يطلق على معنيين: فعل الأسباب مع وجود التوكل
والاعتماد على الله عز وجل، وهذا مشروع، لكن الشيخ لا يقصد هذا المعنى، وإنما يقصد بقوله ذاك:
الاعتماد على الأسباب من دون الله عز وجل، وجعلها هي النافعة والضارة والمؤثرة من دون الله، دون
أن يكون لله عز وجل في ذلك تقدير ولا خلق، وهذا كما يفعله كثير من أهل الشرك، بل الآن أكثر الكفار
يظنون أن الأسباب هي الفاعلة، ولا يعولون على تقدير الله عز وجل، بل لا يعرفون هذا أصلاً في
عقائدهم، ويظنون أن الأسباب هي التي أوجدت، ولذلك نجدهم -مثلاً- في تعبيراتهم الأدبية خاصة
ينسبون الخلق إلى غير الله عز وجل، فيقولون: إن الطبيعة خلقت كذا، والإنسان خلاق، وكذا خلق،
وهذه التعبيرات انتقلت إلى بعض المثقفين المسلمين مع الأسف؛ بسبب التقليد الأعمى وبعدم إدراك
العقيدة ينسبون الخلق إلى غير الله عز وجل كما ذكرنا؛ لأنهم يرون الأسباب هي المؤثرة، فالتفتوا إليها
ولم يعولوا على الاعتماد على الله عز وجل، وهذه سمة عامة في جميع الكفار في هذا العصر.إذاً:
الالتفات إلى الأسباب على نوعين: الأول: فعل الأسباب كما شرع الله عز وجل مع الاعتماد على الله،
وهذا مشروع، الثاني: الاعتماد على الأسباب من دون الله، وهذا شرك مع الله عز وجل، وهذه هي
القاعدة الأولى.وأما القاعدة الثانية فقال رحمه الله: (ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل””
وقد يقول البعض إننا نحن في هذا الوقت في هذا العصر الحديث لابد أن نأخذ الأسباب التي توصلنا
إلى طاعة الله سبحانه وتعالى وتوصلنا إلى ما نريد، الأسباب بيد الله وهو القادر على كل شيء، يقول
للشيء: كن فيكون، ولكن هذا المجتمع الذي نعيشه الآن ليس عصر النبوة ولا عصر الخلفاء الراشدين،
نحن في وقت الطائرة والسيارة والكمبيوتر، لابد أن نأخذ بها حتى نصل إلى تحقيق المجتمع الإسلامي
الكامل، أما أننا نقعد نقول: نحن لدينا إيمان قاطع بقدرة الله سبحانه وتعالى ولا نبذل الأسباب فهذا خطأ؟.
أنا مضطر الآن لأن أبين بعض الإشكالات التي حصلت من كثرة ضرب الأمثلة.
قال العلماء: ( الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع )
فلو جاء رجل فقال: أنا لن أتزوج وأريد الولد، ماذا تقول في هذا الرجل؟ تقول: إنه أحمق، ولو قال رجل:
أنا أريد أن أصل بالسيارة إلى المكان الفلاني بدون (بنزين) سوف نقول: أحمق، لو قال: لو شاء الله
لأجراها بدون (بنزين) نقول: نعم، الله على كل شيء قدير، لكن لابد أن تبذل السبب، بأن تضع
(البنزين) في السيارة.
كذلك هناك رجل يريد أن يعيش بلا أكل، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ )[المائدة:3]، ثم قال عز وجل: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:3] .
قال سفيان الثوري : ( إذا اضطر فلم يأكل الميتة فمات؛ دخل النار ) لأنه أعان على نفسه،
وقد أحل الله له الميتة لكي لا يموت، فلو شاء الله عز وجل لأقام العباد بدون أن يحل لهم ما حرمه،
فإن ربنا سبحانه وتعالى قادر على إبدال أكلنا للميتة التي حرمها علينا، ويعطينا القوة والطاقة حتى
نصل إلى الحلال، أليس ربنا على كل شيء قدير، لكن الله أباح لنا أن نأكل الميتة أخذاً بالأسباب.
فمفهوم كلامي: أنه لا ينبغي لعبد أن يركن إلى الأسباب فيقول: إن الطب الحديث لازم يرفع العلة،
هذا مرفوض، نقول: لا، الدواء قد يرفع العلة وقد لا يرفع العلة.