أسباب الهجرة النبوية
كتب.إسلام محمد
ولقد تفنن أهل مكة في إيذاء الحبيب، وسبحان الله! لم يمض على الجهر بالدعوة إلا أشهر معدودة وإذ بموسم الحج يقترب،محمدج
والعرب كانوا يحجون البيت قبل الإسلام وهم على الشرك، وكانوا يقدسون البيت تقديساً عجيباً. واجتمع المشركون في مكة
وخافوا على العرب من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فاتفقوا على كلمة حتى لا يكذب بعضهم بعضاً، واتفقوا جميعاً على
قولة المتكبر المعاند الذي عرف الحق وتكبر عليه وأعرض عنه، وهي مقولة الوليد بن المغيرة ، الذي فكر في الأمر وقلبه من
جميع جوانبه، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ [المدثر:18-22] -كشر- ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ
[المدثر:23-24]، إن الذي جاء به محمد سحر يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء
وقبيلته وعشيرته، وانفضوا جميعاً وقد اتفقوا على أن يقولوا: إن محمداً ساحر، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم حتى
أقبلت الوفود، فقام النبي عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى لا إله إلا الله، وأبو لهب يمشي خلفه ويقول: لا تصدقوه فإنه
صابئ كذاب! اتهموه بالجنون ونادوا عليه وقالوا: يا مجنون! وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]، وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص:4].وازداد الأمر سوءاً، واشتد البلاء والاضطهاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى
إن امرأة تتطاول على صاحب المقام العالي صلى الله عليه وسلم،
إنها أم جميل التي تمزق قلبها من الحسرة على ما سمعت من القرآن الذي تلي في حقها وزوجها، وأخذت الحجارة في يديها، وذهبت إلى رسول الله حول بيت الله
لتلقي بالحجارة على رأسه وعلى فمه، وذهبت إليه وهو جالس مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه وقالت: يا أبا بكر أين
صاحبك؟ -لقد أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بلغني أنه يهجوني، وو الله إني لشاعرة، ثم قالت: والله لو وجدته لرميت فاه بهذا الفهر -أي: بهذه الحجارة-، ثم أنشدت وقالت مذمم عصينا -أي: محمد عصينا-.ودينه قلينا.
وأمره أبينا. وفتحت هذه المرأة الشريرة الباب للمشركين أن يتطاولوا، وأن يصبوا العذاب صباً على أشرف رأس وأطهر رأس وأعظم بدن دب على ظهر هذه الأرض. و
البخاري من حديث عبد الله بن مسعود : (جلس أبو جهل وأصحابه من حوله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فقال أبو جهل عليه لعنة الله:
من يقوم منكم إلى سلا جزور بني فلان فيلقيه على ظهر محمد وهو ساجد، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، وجاء بسلا الجزور النجس وانتظر حتى
سجد الحبيب صلى الله عليه وسلم وألقاه على ظهره وعلى رأسه، وظل النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً لا يرفع رأسه)،
أتلقى النجاسة على رأس رسول الله؟! نعم، وظل الحبيب صلى الله عليه وسلم ساجداً لا يرفع رأسه (حتى جاءت إليه ابنته
فرفعت الأذى عن أبيها)، ابنة تنظر إلى أبيها على أنه أعظم الرجال، ها هي تدفع الأذى والنجاسة بيديها عن رأسه وعن
ظهره الشريف، ويرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه. وفي البخاري أيضاً: (أن عقبة ذهب مرة أخرى وخنق النبي
عليه الصلاة والسلام خنقاً شديداً حتى كادت أنفاسه أن تخرج، ويأتي الصديق
رضي الله عنه ويأخذ بمنكبيه ويدفعه وهو يقول له: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!) ليس له جريمة إلا أنه يقول: لا إله
إلا الله، أصبحت كلمة التوحيد جريمة في القديم وفي الحديث! أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ
رَبِّكُمْ [غافر:28].أصبح التوحيد جريمة،
بل ويزداد الأمر سوءاً -كما روى الطبري وابن إسحاق-: فيلقي عليه بعض الأنذال ا
تراباً على رأسه، ويرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته والتراب على رأسه، فتقوم إليه إحدى بناته لتغسل التراب من
على أشرف رأس وأطهر رأس، وهي تبكي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي ولا تحزني يا ابنتي، إن الله مانع أباك إن شاء الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
كل هذا يفعل برسول الله، فما ظنكم بما يفعل بالمستضعفين، هذا ما يفعل برسول الله مع دفاع أبي طالب ومع مكانته في
قومه، فما ظنكم بما يفعل بالمستضعفين من الموحدين؟! كلنا يعلم أن أول شهيدة في الإسلام سمية رضي الله عنها، لقد ع
أبو جهل عذاباً شديداً، وفي النهاية طعنها بحربته في فرجها فماتت، فهي أول شهيدة في الإسلام، تطعن بحربة في فرجها؛ لأنها ق
لا إله إلا الله!ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم بداً أمام هذه الحرب الشرسة الضروس، إلا أن يشير على أصحابه المستضعفين بالهجرة. سيتركون مكة،
ويتركون الأهل، ويتركون الديار، ويتركون الأموال، ويتركون الأوطان، ويتركون الأحباب؛ كل ذلك من أجل الدين، من أجل
العقيدة، إنها أغلى ما يملك الإنسان في هذا الوجود، فهي أغلى من وطنه، وأغلى من ماله، وأغلى من أولاده، وأغلى من نفسه،
هكذا ينبغي أن تكون. والهجرة إلى أين؟ إلى أين سيذهب أصحابك يا رسول الله ؟ سيذهبون إلى أرض بلال إلى الحبشة، ولماذا الحبشة؟ والجواب من رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إن بها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إلى بلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً).
ونتوقف مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يغادرون مكة في غاية الحزن والألم
والأسى، وهم يرحلون عن حبيبهم وإمامهم ونبيهم، وهم يتخلون عن ديارهم وعن بيت ربهم، نسأل الله جل وعلا أن يجزيهم عنا خير الجزاء
ويخرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رجب من السنة الخامسة من بعثة رسول الله عليه الصلاة والسلام، يخرجون إلى أرض الحبشة، ويشتد الأذى
ويزيد البلاء والاضطهاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الموحدين من المستضعفين. ويشاء الله جل وعلا لهؤلاء
المقهورين نصراً يزلزل أرجاء مكة، نعم، فلقد أسلم أسد الله وأسد رسوله حمزة رضي الله عنه، وبعد ثلاثة أيام فقط من
إسلام حمزة يبرق ضوء شديد في مكة كلها، يضيء للمقهورين طريقهم -ولأول مرة- إلى بيت الله الحرام ليطوفوا
باطمئنان وثقة وثبات، ولم لا وقد أسلم عمر؟! نعم أسلم عمر بعد ثلاثة أيام من إسلام أسد الله وأسد رسوله حمزة رضي
الله عنهم جمعياً وأرضاهم، ولأول مرة يخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه المستضعفين المقهورين في
صفين: على رأس الصف الأول حمزة، وعلى رأس الصف الثاني الفاروق عمر، وبين يدي الصفين إمام الهدى ومصباح ا
محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أين؟ إلى بيت الله الحرام الذي حرمهم المشركون
من التمتع به والتلذذ به، والتعبد والصلاة عنده.نصر جديد من عند الله جل وعلا.
وبعد ستة أشهر فقط من الخروج من هذا المأزق الحرج، يصاب النبي صلى الله عليه وسلم بفجيعة مؤلمة، فيموت عمه أبو
طالب الذي كان بلا منازع حصناً حصيناً تتحطم عليه رماح المشركين وسهامهم، والذي كان بلا منازع من أول الناس دفعاً ع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من ذلك يموت أبو طالب على دين قومه، ويتنزل فيه قول ربه جل وعلا لحبيبه
صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].وبعد شهرين أو ثلاثة من و
هذه الفاجعة يصاب النبي صلى الله عليه وسلم بفاجعة تفتت الكبد وتمزق القلب، أتدرون ما هي؟ إنها موت زوجته خديجة ،
ماتت صاحبة القلب الكبير، لا إله إلا الله .. رحماك رحماك يا الله! مات أبو طالب
وماتت خديجة رضي الله عنها بعد شهرين أو ثلاثة، ماتت التي كانت تضم النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدرها؛
لترفع عنه الهم والغم، ولتخفف عنه البلاء، ولتضمد جراحه بأسلوبها العذب الرقيق، ماتت خديجة وعصر الألم قلب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سمى هذا العام العاشر الذي مات فيه أبو طالب وخديجة ، سماه النبي صلى الله عليه و
بعام الحزن، إي والله إنه لعام حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد موت أبي طالب كشرت قريش عن أنيابها، وضاعفت الأذى والاضطهاد على رسول الله وعلى الموحدين، وترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأرض الصماء، هذه الأرض الجامدة، وخرج يبحث عن
أرض أكثر خصوبة؛ ليبذر فيها بذرة التوحيد؛ ليبذر فيها بذرة لا إله إلا الله.ويخرج النبي عليه الصلاة والسلام ي
الأودية والجبال تحت حرارة هذه الشمس المحرقة، وعلى هذه الرمال الملتهبة المتأججة، يمشي على قدميه المتعبتين الداميتين بلا راحلة، لماذا؟ لأنه كان لا
يملك ثمن الراحلة. يتحرك الحبيب على قدميه، لماذا؟ هل يريد جاهاً، أم يريد مالاً، أم يريد سلطاناً؟ لا، بل يريد الله والدار
الآخرة، يريد أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، من الشرك إلى التوحيد والإيمان. وتوجه إلى الطائف، خرج إلى الطائف
يمشي أكثر من سبعين كيلو على قدميه تحت حرارة الشمس وعلى هذه الرمال، لم يركب سيارة مكيفة، ولا طائرة خاصة، و
على قدميه الشريفتين بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد بقية خير في قلوب أناس خارج مكة، يبحث
عن أمل، يبحث عن يد حانية تمتد لرفع راية لا إله إلا الله. مر النبي عليه الصلاة
والسلام على أشراف بني ثقيف وساداتها، ولكن القوم كانوا أشد خسة ودناءة مما فعله به المشركون في مكة المكرمة،
فسبوه ونهروه وطردوه صلى الله عليه وسلم، وقام -بأبي هو وأمي- يطلب منهم طلباً أخيراً هو أقل ما يطلبه الإنسان من
أخيه الإنسان، يقول لهم: (إذ فعلتم بي ما فعلتم فاكتموا خبر زيارتي عن أهل مكة؛ حتى لا تزداد شماتتهم وظلمهم وعدوانهم)
، ولكنهم كانوا أشد خسة ودناءة مما توقعه النبي عليه الصلاة والسلام، فسلطوا عليه الصبيان والعبيد والسفهاء، ووقفوا صفين
وأخذوا يرمونه بالحجارة، ويسخرون به، ويسبونه بأقبح السباب والشتائم.وقام النبي صلى الله عليه وسلم والألم يعصر
كبده، والمرارة تمزق قلبه، قام بحالة تفتت الأكباد وتمزق القلوب: جوعان، عطشان، يتألم من ألم السير بالليل والنهار على
قدميه، دعوة مطاردة، وأصحاب تتخطفهم أيدي الطغاة، لا إله إلا الله! وألجأ السفهاءُ والصبيانُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إ
بستان لـعتبة وشيبة ابني ربيعة، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بعدما جلس والدماء تنزف من قدميه الشريفتين
الكريمتين المباركتين إلا أن يستعيد ذكريات شريط الأحزان، شريط الدعوة الطويل إلى الله جل وعلا، فتذكر أصحابه ف
الحبشة، وتذكر إخوانه الذين يجلدون ويعذبون في مكة، وتذكر خديجة ، وتذكر أبا طالب، فلم يجد بداً من أن يرفع هذه
الشكوى إلى من يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، رفع إلى الله هذا الدعاء -وإن كان
شيخنا الألباني قد ضعف إسناده- لجأ إلى الله بهذه الدعوات الحارة وقال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي،
وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني! أم إلى ع
ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له
الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك
، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).بأبي هو وأمي صلى الله عليه
وسلم، ونتوقف في هذا اليوم أيها الأحباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الطائف، لنواصل المسير مع أعظم داعية عرفته الدنيا على طريق الدعوة الطويل ف
اللقاء القادم إن شاء الله جل وعلا إن قدر الله لنا البقاء واللقاء.وأسأل الله جل
وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجزيه عنا خير الجزاء، اللهم اجز عنا محمداً خير الجزاء، اللهم اجزه عنا
خير ما جازيت به نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم وكما آمنا به ولم نره فلا ت
بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين، اللهم صل وسلم وزد
وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعل كل من اهتدى بهديه،
واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو
نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.