ناصر أبو طاحون يكتب.. الخريف الحزين
عند انتصاف نهار ذلك اليوم البعيد فى بدايات الخريف، عاد الولد الصغير من مدرسته يحمل شنطة كتبه على كتفه
لم تكن أبواب المنازل فى الريف تعرف الإغلاق طوال النهار
الأبواب مشرعة حتى الليل
لم يكن بحاجة للنقر على الباب قبل أن يكون فى قلب المنزل
على الفور دلف الولد لحجرة أمه، فوجدها فى أحد الأركان شبه المظلمة و قد تحلقت حولها بعض النسوة من الأقارب و الجيران يحاولن مساعدتها ومعهن “مِصوَابة” القابلة.
لم يفهم الولد -ابن السابعة أو أقل – ما يجرى على حقيقته، فانشغل بشأن نفسه
كانت الشمس تتسلل من خلال النافذة لتصنع بقعة كبيرة من الضوء على السرير الموجود فى الجانب الأخر من الغرف
أفرغ الولد كتبه و كراساته عند نقطة الضوء و ألقى بنفسه فوقها يفتش فيها متظاهراً بالإنشغال، ثم شرع فى عمل الواجبات المدرسية.
بعد وقت – طال او قصر- لم يستطع الولد تحديده، عادت شقيقته الكبرى من المدرسة و عندما دخلت للحجرة أطلقت صرخة مدوية متسائلة عما يجرى لأمها.
كانت الأم فى حالة ولادة متعثرة و الوضع بلغ مرحلة حرجة، فهم الولد ذلك فيما بعد.
مشاهد متناثرة التصقت بعقل الولد الصغير عن أحداث ذلك اليوم ، لا يستطيع ربطها زمنياً ببعضها، بل لا يتذكر كل تفاصيلها، و لا أين ذهب او ماذا فعل؟
مع صرخة شقيقته الكبيرة تنبه الولد أن فى الأمر شىء جلل
لكن لم يكن بوسعه ان يفعل شىء
مع اقتراب شمس ذلك اليوم من الغروب و احمرارها فى جهة الغروب، كانت سيارة الإسعاف قد جاءت لتحمل الأم للمستشفى فى رحلة قصيرة استمرت عدة ساعات.
مع حلول الظلام كان البيت يمتلىء بالأقارب من النساء يتلمسن أى أخبار مطمئنة
لم تكن هناك أى وسائل اتصال حديثة
قبل منتصف الليل استيقظ االولد من نومه المتقطع على اصوات و جلبة عند باب البيت
و النساء تتدافع نحو الباب و إحداهن تصرخ وهى تقول :
“افتحى يا بت حبيبة ماتت”
و ضجت القرية بأصوات الصراخ التى تقطع صمت الليلة الحزينة
كان هذا أخر ما سمعه الولد فى تلك الليلة قبل أن يجد نفسه بصحبة شقيقه الأصغر فى بيت إحدى قريبات العائلة لكى تبعدهم عن تلك الأجواء
كانت ليلة شديدة الصعوبة من الكوابيس و الهلاوس و الرعب خلال النوم
فى الصباح كان الولد فى بيت “الأبلة سميحة” مدرسته حيث أرسلت تطلبه، فهو من التلاميذ المقربين اليها و أصحاب الحظوة عندها، و كان من المعتاد أن يتواجد هؤلاء الأولاد معها فى منزلها حيث جميعهم على درجة من القرابة و التشابك الذى يجعل من القرية عائلة واحدة تقريبا ، فضلاً عن كونهم من التلاميذ النابهين الذين يحبهم المدرسين فى ذلك الوقت و يشجعونهم باستمرار.
كانت الأبلة تحاول ان تواسي الصغير و تخفف عنه، و تحاول أن تقنعه أن أمه لم تمت و انها ستعود قريباً و معها الطفل الصغير الجميل، و بينما الولد يتظاهر بالتصديق، كان المشهد الحزين للجنازة يمر من أمامهم يحمل جثمان الأم و مولودها إلى مثواها الأخير.
كانت وفيات الأمهات و الأطفال أثناء الولادة و بعدها من الأمور المتعارف عليها فى ذلك الوقت لدرجة أن ثلاث أمهات غادرن فى أوقات متقاربة ربما خلال نفس العام.
كانت أرقام الوفيات و نسبها مفزعة فى ذلك الوقت، واحتاجت لعقود من الزمن للتغلب عليها فى بلادنا، و كنا بعض من ضحاياها.
غادرت الأم و تركت أربعة من الأبناء أكبرهم لم يجاوز السابعة عشر و أصغرهم دون الخامسة .
مرت عدة أيام على الأسرة و هى تحظى بدعم ومساندة من الأهل و الأقارب، و كان عليها أن تتحمل بنفسها بثبات و عزم مسئوليات استمرار الحياة، و هو ما تحقق بالفعل و استمر لمدة قاربت على النصف قرن.
و تلك قصة أخرى.
* نقلا عن الصفحة الشخصية للكاتب.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.