بقلم : سامى علوان
بيد أنى لم اوافقها على تصرفها هذه المرة وعلى ما بدر منها فى حقها .
فى طفولتنا صبانا مراهقتنا كانت الخطوات الأولى للمضى قدما كالأعمى كلما أبصرت عينيها وهى
تتنفس فوق سطح مياه الترعة الصغيرة تقفز وتحط تخترق سطح الماء .
كانت البدايات الأولى وسط مشاتل الأرز حينما كنت أستذكر دروسى حاملا الكتاب أسير الهوينا وناظرى ما بين السطور .
عدت على صوت إرتطامها بمياه المشتل وهى تقفز وتحط ساعتها أبصرتها عيناى السمراوتان تعكس شعاع الشمس الساقط على جسدها السمين بين عيدان الأرز هنا وهناك .
لم أتمالك نفسى وكأن عينيها الحمراوتان سحرتنى وساقتنى على غير إرادتى حيث هى لأجد نفسى عالقا وسط الطين أطاردها بكلتا يداى ولم أدرى ساعتها أكانت هواية ؟ أم غواية ؟ أم تعويذة أسرتنى ؟
أم أن حكايات أبى عن فترة صباه ؟ .
وكأن مطاردتى لها مرض انتقل بالعدوى ! .
وكأن مخيلتى مستقبلات توجهنى وتسوقنى إليها عبر الجرف إلى تلك الترعة الصغيرة ألاحقها لأتخطفها
من موطنها عبر الشقوق الصخرية المنتشرة على حافتيها وكأن يداى تجذبها إليها حتى أصبحت سعادتى نشوتى أن أمسكها .
فى لحظة صمود حاولت وحاولت أن أكون مثلهم وأجلس على الشاطىء وأرمى خيط الصنارة فى مياه الترعة الصغيرة .
انهار صبرى سريعا فوجدت نفسى ما أعجلها لا تطيق الأنتظار .
أقف بجانب الساقية على مقربة من الترعة أرقب حركاتها وأذنى تترصد همساتها وهى تقفز وتحط
كشعاع ساقط فى قوس قزح تخرج رأسها تتنفس ثم تعود إلى الأعماق والجحور فحرارة الصيف تلفح الوجوه .
أهمس فى صمت لمن حولى أن يهدؤا قليلا لمباغتتها وهى تسبح هائمة فى الترعة .
وجدت نفسى أقفز داخل الترعة أحتضن المويجات وأموج معها سابحا إليها يملؤنى الشغف والحنين إلى ملامستها والإمساك بها .
بدأنا بكل حيوية ونشاط نصنع سدا من عيدان الأرز والحشائش الجافة والطين بعرض الترعة ما بين الساقية وبوابة التغذية .
صعدت ناحية الساقية وأخذت أعمل على دورانها رويدا رويدا حتى صعدت المياه بداخلها وأخذت تتساقط من فوهاتها فى مجراها الجديد .
أخذت المياة فى الإنحسار وبدأت الأسماك تتراقص وتقفز وتخرج رؤسها تتنفس وتعود لتغوص داخل الشقوق والطين والجحور التى هى أشبه بالمخابىء وسط الصخور .
م تكن تلك اللحظات لتضيع هباءا بعد كل هذا المجهود المبذول وأنا أبصر كيف أن تلك التيارات المتدفقة من الأمواج البسيطة تسحب الأسماك فى طريقها داخل مجرى الساقية ثم تعود سريعا تقاوم بكل قوتها تضربها وتشقها لتسبح عكس التيار لتعود داخل الترعة الصغيرة .
أضع يداى فى الشق أطاردها أتحسس المكان وكأن يداى تبصران ما بداخله وهى تتقهقر للورى مذعورة لإحساسها بالخطر الجسيم كلما إقتربت يداى ولامستها .
كان أبى من أطيب الناس وأحرصهم علينا وكانت أمى تحذرنى من بطشه ساعة الغضب وكانت تنصحنى ألا أغضبه أو أستفزه بمراهقتى وأفعالى الطائشة وكم أنبأتنى أنه قاس عند الغضب .
عنفنى والدى أكثر من مرة خوفا على من الإصابة بالبلهارسيا المنتشرة فى تلك الترعة .
كنت قد حاولت جاهدا أكثر من مرة أن أتوقف عن تلك العادة ولكن يبدو أننى قد أصابتنى تعويذة سحر بمجرد أن أرى عيناها وهى تتنفس فوق سطح الماء .
لحظتها لحظتها فقط سريعا ما كنت أفقد ذاكرتى وأتناسى الألام التى أصابتنى منذ أن ضربنى والدى بالعصا الخيرزان .
مرت الأيام سريعا وإذا بى أعود من جديد حيث بدايات عاصفة قوية انهارت من قبلها كل محاولات والدى وعدت معهم أحرك الساقية وأقفز معهم داخل الترعة الصغيرة أطاردهم بكلتا يداى وكأنها تبصرهم وأخذت تمسك واحدة تلو الأخرى وتقذفها على الشاطىء تقفز وتحط مرة مرتان ثلاث قبل أن يمسكها أخى الصغير ويضعها فى الدلو واحدة اثنتان ثلاث .
لحظات قليلة مرت علينا ونحن نقذف بالأسماك على الشاطىء واحدة تلو الأخرى .
فجأة تسمرت أقدام كل من حولى وسكتت الأصوات وسيطر الهدوء على المكان على غير العادة هدوء ما قبل العاصفة حتى أنه لم يعد يسمع سوى صدى صوتى أنادى عليهم .
إلتفت إلى الخلف حيث سكنت أبصارهم .
أشار إلى : إصعد الجرف ! .
تملكتنى رعشة خفيفة وأحسست ببرودة تسرى فى جسدى وقشعريرة بدت على جسدى لحظات قليلة وحاولت الصعود من الناحية الأخرى بعيدا عنه .
أشار إلى : إصعد من هنا ! .
بدأت أصعد الجرف وجسدى ينتفض من الخوف وما أن إقتربت منه حتى بادر وأخرج عصاه الخيرزانى من بين طيات ملابسه وانهالت على جسدى الملطخ بالطين من كل جانب وهى تحدث صفيرا فى الهواء تحتضننى بكل قسوتها تلسع جسدى المكشوف وكأننا لم نلتقى يوما ما أو أننا لن نلتقى بعد ذلك أبدا .
انتفض جسدى وأنا أتاوه من شدة الألم ودمعت عينى وفار الدم فى عروقى وأخذت أركض إلى البيت كما الحمار الجانح .
.
إقتباسة
من
قصة قصيرة
التعويذة
المجموعة القصصية
خبز تحت الحصار
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.