البنسيلين تم إكتشافه بالصدفة عام 1928م حيث أن ألكسندر فلمنج كان معروف ببراعته وعبقريته كباحث
ولكن إهماله وتراخيه الكبير في معايير النظافة وفي احدى المرات خرج بدون أن يغلق نافذة المعمل فتلوث أحد
أطباق بتري (أطباق لزراعة ونمو البكتيريا تشتق أسمها من مخترعها “يوليوس ريتشارد بتري” مساعد الطبيب
الألماني الرائد “روبرت كوخ”) في المعمل بفطر (أو عفن) يسمى البينيسيليوم من أحد ذرات الغبار الذي دخل
المعمل من النافذة وبعدما عاد فلمنج للمعمل مرة أخرى وجد أن الفطر ترعرع وأزدهر في الطبق وأحل محل
البكتيريا لأنه يفرز مواد قاتلة لها، فأطلق فلمنج على تلك المواد أسم بنسيلين نسبة للفطر الذي يفرزها
(كلمة بنيسيليوم نفسها كلمة لاتينية معناها “يشبه الفرشاة” أو “يشبه المكنسبة – المقشة -” إشارة
لشكل خلايا الفطر وهي نفس أصل كلمة pencil التي كانت مستخدمة للإشارة لفرش الرسم قبل
إختراع القلم الرصاص الحديث.)
لكن هذه أبعد ما تكون عن نهاية القصة فعلى الرغم من أن فلمنج فطن إلى الأهمية الجبارة لإكتشافه
إلا أنه واجه العديد من العقبات المستعصية في مسيرة تطويره والإستفادة منه للحد الأقصى وتعميم
إستخدامه لتحقيق حلم القضاء على البكتيريا وأول وأهم تلك العقبات هو أنه لم يكن لديه أدنى فكرة كيف
ينتج البنيسيلن بكميات كبيرة أو أي كميات من الأساس لتعميم لإستخدامه وبعد العديد من المحاولات أنتابه
اليأس وتقريبًا أستسلم تمامًا في المحاولة وبدت أنها نهاية المطاف للبنيسيلين (البنيسيلين وقتها كان
بالغ الندرة وثمين القيمة لدرجة أنهم بعد حقن المريض به كانوا يعزلوه مرة أخرى من بول المريض لإعادة إستخدامه.)
لم يتم حل تلك العقبة إلا بعدها بحوالي 10 سنوات حينما أكتشف العالم الأسترالي “هاوارد فلوري”
ورقة ألكسندر فلمنج البحثية المغمورة فشكل فريقــًا بحثيًا بقيادته هو ورفيقه في جامعة أكسفورد “
إرنست بوريس تشين” الذي فر من ألمانيا النازية ليعمل كباحث في إنجلترا وبعد حوالي سنتين من
العمل البارع الدؤوب ظفر الفريق البحثي بالنجاح في تحقيق الهدف المنشود إنتاج البنسيلين بكميات كبيرة كافية لنشره على نطاق واسع وتعميم إستخدامه وفي غضون 5 سنوات أنتجت الدول العظمى ما يكفي من البنيسيلين لمعالجة جيوشها وكان معدل الشفاء مذهل (أكثر من %90) وعام 1945 تقاسم فلوري وتشين جائزة نوبل في الطب مع فلمنج والطريف أنه في خطابه عند إستلام الجائزة ولاحقــًا في حوار مع جريدة نيو يورك تايمز توقع ألكسندر فلمنج الكارثة الحالية بنشوء وإزدهار أجيال جديدة بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية المتداولة (تعرف بأسم drug-resistant bacteria أو دارجًا بsuper bugs) بسبب التطور المستمر للكائنات الحية وتطويرها آليات دفاعية جديدة لمواجهة ألد أعدائها وأكبر مخاطرها الطبيعية وكذلك الإستعمال البشري المفرط للمضادات الحيوية الذي يحفز ويشجع على إختيار الطفرات الجينية في البكتيريا التي تمنحها القدرة في مجابهة المضاد الحيوي، وبالفعل بدأت المقاومة تتطور بعد إنتشار البنيسيلين ب10 سنوات فقط.
برغم أن البنيسيلين كان أول مضاد حيوي نكتشفه، إلا أن أول مضاد حيوي أنتشر وأستخدم على نطاق واسع قبل البنسيلين كان عقار يسمى Prontosil من صناعة الألماني Gerhard Domagk وأنقذ عشرات الملايين من البشر حتى ستينات القرن الماضي حيث تم إحلاله ببدائل أفضل وحصل Domagk كذلك على نوبل الطب لجهوده ومساهماته، ولكن الحكومة النازية بعدها أجبرته على رفض جائزته و”التبرؤ” منها وأعتقله البوليس السري لفترة بسبب أن قبلها ب4 أعوام نوبل منحت المعارض الألماني Carl von Ossietzky الجائزة فأصدرت الحكومة النازية قانونــًا يحرم على المواطنين الألمان قبول الجائزة!
من الصدف السعيدة جدًا أيضــًا في ملحمة البنيسيلين هو أنه تم تجربته طبيًا للمرة الأولى على الفئران وليس على خنازير غينيا (حيوانات أخرى تشبه الهامستر مستخدمة في التجارب الطبية) لأنه سام لخنازير غينيا وإذا كانت أول تجربة له عليها لربما تم صرف النظر عن فكرة البنيسيلين من الأساس.
من الأشياء الطريفة أن بعض الحضارات العتيقة كان لديها فكرة عامة ضبابية عن الخصائص العلاجية لهذه الفطريات دون معرفة التفسير والتفاصيل الأعمق والأسباب الدقيقة فمثلًا قدماء المصريون كانوا على علم أن الخبر المتعفن يمنع التلوث من جروح الحروق وتوصل قدماء الهنود وغيرهم لإستنتاجات شبيهة.