هل عقدت مقارنة يوما بين المجتمع قديماً والمجتمع الأن ؟ هل قرأت قصصا وروايات توضح طبيعة حياة الناس وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم أثناء الحكم العثماني لمصر ؟؟
فى بداية القرن السابع عشر ظهرت فى أوروبا العديد من المصطلحات الاجتماعية والسياسية ، وذلك بفعل الفكر الحديث وظهور عصر التنوير وأخذ كثير من الفلاسفة والمفكرين ينادون بفصل الزمني عن الروحي والاهتمام بما يتعلق بالعقل كما رأى هؤلاء المفكرين أن العقل والإيمان لا يلتقيان !!
فى تلك الفترة كانت مصر منعزلة منغلقة على شعبها المستكين الذي أُجبل على الطاعة المطلقة للحاكم العادل وإن كان محتلاً!! وكانت القيم والتربية القويمة النابعة من الإيمان هى من تحكم الاهواء والقلوب.
ومع الوقت وبعد الفتح العثمانبي لمصر في بداية القرن السادس عشر، بالرغم من وجود الدين وشريعته عامل مشترك بين البلدان ؛ إلا ان اختراق بعض الدول الاستعمارية لهذه الكيانات كان سبباً أساسيا في ظهور فكر جديد وفلسفات صادمة ،أتى بها التنويريون الغرب وكانت تحمل فى ظاهرها البناء والتنوير وفي باطنها تحمل الهدم والانقضاض على القيم والتراث ، وهذا الذي تشدّق به الكثير من التنويرين العرب في محاكاة الغرب المستعمر مطالبين المجتمع بالحداثة والحريّة المطلقة فى كل شيء ولا سيما كل ما هو مقدس .
إن ظهور الحداثة فى أوروبا كان ناتجاً عن تدخل الكنيسة فى شئون البلاد تدخلاً طاغياً فكان رجال الدين يبيعون المناصب والوظائف ويؤجرون أراضى الجنة بالصكوك ، فكان المخرج لهذا هو فصل الدين عن الحياة السياسية وخصخصة الدين وفصله عن العلم الحديث
ولقد استغل المحتل إنغلاق المجتمع المصري على أبنائه وتعطّشه للتنوع الثقافي والفكري وقام بإدخال مباديء الحداثة الغربية التى لا تناسب مطلقا طبيعة واعتقاد وتراث المجتمع المصري فحدث الصراع.
هذا الصراع الذى أدخل المجتمع كلّياً في نفقٍ مظلم حاملا معه القيم والتراث ولاسيما الدين ؛ فأصبح البعض ينسلخ عن الأصول وينقطع عن الماضي بل فالأدهى أن هذه الثورة التى تقوم على كل ماهو قديم مقدس أو غير مقدس أصبحت على مرْأى ومسمع من الجميع.
إن تمازج الحضارات المختلفة والمتفاوتة علمياً واقتصادياً لهو ظلمٌ بين لأحدهما بل الأدعى هو ظلم للأكثر تمسكاً بالروحانيات والعقائد والأصول ، وهو بمثابة تزاوجا غير شرعياً نتج عنه المجتمع الراقص ،الذى تتراقص فيه المبادىء رقصة الصوفي الزاهد أحيانا. وأحياناً أُخرى ترقص رقصة السكير الذي فقد عقله ولَم يعي عواقب جُرمه ، هذا المجتمع فقد الاتزان والتوازن.
إن عفوية الشعب المصرى وضحالة ثقافته فى تلك الفترة وانبهاره بالمحتل وعلومه الحديثة جعلته يرى أن التنوير هو المخرج من الأزمة الثقافية والعلمية التى كانت تسود آنذاك وأخذ يروي تعطشه من ذلك الفكر الدخيل دون إنتقاء ما يناسب الفطرة والعقيدة المصرية التى خُلقت ومعها الإيمان والتوحيد ، ومثلما سمح للمحتل إحتلال أرضه ، فقد سمح له باحتلال عقله وفكره ؛ ولا أبالغ إن قلت أن كثير من الأدباء والمفكرين وقعوا ضحية هذا الانبهار والتقليد الأعمي دون انتقاء الانسب. بل وكان منهم من ينادي بكل ما أوتي من قوة بذاك التنوير المجحف.
إن التنصل من الأصول فى أوقات الركود والخمول لهو اصل الْخِزْي والتردّي ، كمن افتقر أباه فتبرأ منه ، أقبح به من وريث ، اننا أمة الاديان وبداية الانسان وتاريخ ممتد عبر الزمان .
لقد تحول الفكر من وحدته إلى التشتت لا التشعب ، إن المجتمع الذى يسمح بالاحتلال الثقافى الذى يُهبط من تراثه وينهل منه ولا يرد ؛ هو مجتمع يهون عليه كل شىء ، مجتمع يتحول أفراده إلى مسوخ خاوية الأفكار ، مناهضة للإعمار ولا عجب فقد ذكر التاريخ لنا كثيرا من هذه الأمثلة التى انبهرت بالأخر دون تروِّ دون انتقاء فثَقُل عليها الحمل فتغشاها الضعف والفتور والبعض منها قد اندثر.
ولا عجب فإن لنا فى الأندلس لعبرة ، عندما تمازجت الحضارة الاسلامية مع الظلام الأوروبي من فرنسا والبلاد المحيطة وأدخلوا عادات وتقاليد لم يعتادها العرب مثل مدارس الغناء والرقص والاهتمام ببناء القصور وحياة الترف بل والاتيكيت و الموسيقى ؛ انبهر المسلمون ونسوا أنهم وسط الأعداء واعتقدوا لطول مكوثهم أنهم أصبحوا بمأمنٍ من الأوروبين ، ثم أبادهم مَن أفسدهم. واندثرت أمة الاسلام فى الأندلس بعد فتح قارب من ثماني مئة عام.
إن هذه الحداثة لا يحتاجها الشرق ولا تناسبه مطلقاً ، لأن المسلمين وجميع العرب تحمل جيناتهم حنينا للأصول يفوق تخيّل هؤلاء المُحدِّثين بل يفوق تصور أهل الشرق أنفسهم ، يتعايشون في ودٍّ بالغ مع النخوة والشهامة والمروءة ، كما أن الله في حياتهم هو الحياة نفسها وغايتها وإن فقدها ؛ فقد المعنى والمبتغى لهذه الحياة ولهذه الدنيا. ولهذا فقد أختارهم الله ليُنزل عليهم جميع رسالاته لأنهم أهلٌ لهذه الرسائل.
الحرب ليست بسهلة ، لأننا سوف نبدأ بالعدو الأخطر وهو النفس ،الإيمان الصادق هو سلاحنا لنقتص لتراثنا ، الأوبة واحتضان الجذر المتباكي علّ النزف يجف ، علّنا ننقذ ما تبقى من تراث رخيم. القراءة والتمسك بالعادات والقيم والعلم والعمل هم سبيل النهوض وتعافى الشروخ فى المجتمع. إن نهضة الامم تأتى من سواعد الاخيار محبى الأرض والذين يدافعون عن دينهم وعنها كما العِرض.