وأردتم الصَّلاة {فولوا وجوهكم شطره} فلمَّا تحوَّلت القِبلة إِلى الكعبة قالت اليهود: يا محمد ما أُمرتَ
بهذا وإنَّما هو شيءٌ تبتدعه من تلقاء نفسك فأنزل الله تعالى:
﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ أنَّ المسجد الحرام قِبلة إبراهيم وأنَّه لحقٌّ ﴿ وما اللَّهُ بغافل عما تعملون ﴾
وفي مقالي هذا اذكر بعض الدروس والعبر من تحويل القبلة
1 مدى إكرام الله- عز وجل- لنبي هذه الأمة، في النقاط التالية: كما جاء ذلك في كتاب شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
1- إثبات رؤية الله، – سبحانه وتعالى-، لكل أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى في حال تقليب
وجهه في السماء متمنيا تحويل القبلة، وهي رؤية خاصة، علمنا منها عظيم الاعتناء به صلّى الله عليه
وسلّم، والدليل على أنها رؤية خاصة، ذكرها في القرآن الكريم، وأنه ببركتها قد تحقق مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
2- خص السماء بالذكر في قوله تعالى: تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ؛ لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها وما يعود منها، حكاه القرطبي عن الزجاج.
3- ما كان نسخ التوجه لبيت المقدس، والأمر بالتوجه للمسجد الحرام، إلا لإرضاء النبي صلّى الله عليه
وسلّم، حيث ذكرت الآية كل الأفعال مضافة إليه: تَقَلُّبَ وَجْهِكَ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ، قِبْلَةً تَرْضاها،
فَوَلِّ وَجْهَكَ، وبعد أن ذكرت الآية سبب تغيير القبلة، والأمر الخاص الموجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم
بالتوجه قبل المسجد الحرام، وجهت الآية الأمر إلى الأمة، وكأنها تابعة لنبيها، قال تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
يتفرع على ذلك، علمنا بعظيم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه- تبارك وتعالى-، لأن القبلة
وهي من أعظم شعائر الله، – سبحانه وتعالى-، تحوّل لإرضاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وينص القرآن الكريم على ذلك.
2 أفضلية الأمة المحمدية:
لقد شهد الله للأمة بالوسطية في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].والوسطية تعني الأفضلية والخيرية والرفعة؛ فالأمة وسط
في كل شيء، في العقيدة والشريعة والأخلاق والمعاملات، وهذا واضح جدًّا لكل مَن درس تعاليم الدين
الإسلامي بالتفصيل. يقول ابن كثير يقول الله تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام،
واخترناها لكم؛ لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداءَ الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل،
فهي أمة وسط في التصور والاعتقاد، وفي التفكير والشعور في التنظيم والتنسيق، والارتباطات والعلاقات، وفي المكان في سرة الأرض وأوسط بقاعها.
ومن وسطيتها أنها جمعت بين القبلتين، فلم يتحقق ذالك لأمةٍ من الأمم السابقة، بل إن النبي
وهو في مكة كان يجعل الكعبة وبيت المقدس معًا في اتجاه وجهه، فجمع بين القبلتين معًا،
ومنفردين.وتتبلور الخيرية أيضًا في الشهادة على الأمم السابقة، قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ} [البقرة: 143]. فخيرية الأمة أنها في مقام الشهادة والتعليم والتربية للآخرين، قال تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران: 110].
3 أهمية الوحدة الأمة
المسلمون في جميع أنحاء العالم يتجهون في الصلوات اليومية، وفي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام،
رغم اختلاف الألسنة والجنسيات والألوان، يجمعهم الدين الإسلامي الحنيف، وهذا ليعلم المسلم أنه لبنة
في بناء يكمل بعضهم بعض كالجدار الواحد وفي الحديث: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا”
وفي الحديث أيضًا: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى
منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى” فهذا تبيين من النبي ﷺ يفيد الحث على معاونة
المؤمن لأخيه المؤمن ونصرته وأن ذلك أمر لابد منه، فهو شيء متأكد، كما أن البناء لا يتم ولا تحصل
فائدته ولا يتحقق الغرض منه إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضًا، بحيث يشد بعضه بعضًا ويقويه،
وإلا تنحل أجزاؤه، وينفرط نظامه ويختل بنيانه، ولذلك تجدون أن الذين يبنون يخالفون فيما يضعونه من
اللبِن ونحوه، بحيث يكون ذلك أدعى إلى قوته، حتى إنهم لربما إذا بالغوا في تقويته وضعوا الرصاص
فيما بين تلك الأحجار، وهذا أحد المعاني في قوله -تبارك وتعالى: كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ [الصف:4]،
قال بعض أهل العلم: كأنهم بنيان مرصوص أي: شُد بالرصاص، وبعضهم فسره بالظاهر المتبادر
مرصوص أي يرص بعضه بعضًا ويقويه فالمسلمون يتعلمون من وحدة القبلة، وحدة الأمة في الهدف والغاية، وأن الوحدة والاتحاد ضرورة في كل شئون حياتهم الدينية والدنيوية.