من منا لم ينقبض قلبه ، عند رؤيته اول شعرة بيضاء في مفرق رأسه ، و كأنها راية بيضاء يحملها رسول ، ينذر بانتهاء فترة الشباب ، و غروب شمس الصبا ، بل منا احيانا من تأخذه ظنون نفسه ، فيري تلك الشعرة البيضاء اول خيوط الكفن الذي ينسجه القدر له !! فيقوم بنزعها أو يخضبها بالسواد فيجمع علي نفسه همين ، هم شعوره بالكهولة ، و هم تحايله و كذبه علي نفسه !.
ما بعد الأربعين تصبح نفس الإنسان كالبحر الهائج ، تتلاطم أمواجه و يضيق بشواطئه ، و لا تعرف إن كانت نفسه الراقدة في جوفه كالمحيط الفسيح ، تحمل الخير الواضح ام الشر الفاضح ! و ينظر الي عمره الذي مضي ، و كأنه نجا من ظلمة الرحم الي ظلمة العيش ، و من ظلمة العيش الي ظلمة القبر ، لتحيا روحه معذبة تشيخ قبل أوانها !؟
لقد ذلل الإنسان الكثير من العقبات في الحياة ، و عبر بمعرفته الكثير من العوالم ، فعرف الكواكب و النجوم ، و عرف الأرض و أغوارها ، و سهولها و جبالها ، و عامرها و غامرها و رطبها و يابسها ، و سماها و بحارها ، لكنه وقف عاجزا عن معرفة نفسه و سبر أغوارها ، لتصبح نفسه عصية عليه ، لا يستطيع أن يطوع افكارها ، أو يهذب شتاتها !! فلو ملك زمام نفسه ، لما شعر بالزمن و لا أزمة ما بعد الأربعين ، و لعاشت روحه فتية شابة لا تغيرها الأيام و خطوبها و لا الليالي و ظنونها.
إن الروح القوية التي لا تنالها عوامل الزمن ، فتقف شامخة أبية ، لا تلوي عنقها ، و لا تكسر عزيمتها أنواء الحياة أو الأيام و قسوتها أو العمر و تسارعة ، إنما تستمد قوتها من حبها للحياة ، و فهمها العميق لسنن الله الكونية و بديهيات الدنيا ، ذلك لأن هذه الروح الوثابة تدرك أن الدنيا إنما سميت دنيا من تدنيها و تقلبها بأهلها ، فهي لا تسمح للجسد ان ينكسر أو ينهزم ، بل تشرق اضواء تلك الروح الأبية علي الجوارح ، فتحافظ علي الإبتسامة المشرقة و الجسد المفعم بالحياة المحب لها علي كدرها ، إن الانسان العابر للأزمان يدرك أن الأبدان لا تشيخ إلا عندما تنهزم الأرواح و لا تسقط فروع الأشجار إلا عندما تذبل الجذور.